.::||[ آخر المشاركات ]||::.
المهدوية في آخر الزمان‏ [ الكاتب : شجون الزهراء - آخر الردود : شجون الزهراء - عدد الردود : 0 - عدد المشاهدات : 256 ]       »     وانفصمتْ والله العروةُ الوُثقى... [ الكاتب : شجون الزهراء - آخر الردود : شجون الزهراء - عدد الردود : 0 - عدد المشاهدات : 311 ]       »     21 رمضان .. ذكرى أليمة استشها... [ الكاتب : شجون الزهراء - آخر الردود : شجون الزهراء - عدد الردود : 0 - عدد المشاهدات : 173 ]       »     نتقال الامام الى روضة الخلد وا... [ الكاتب : شجون الزهراء - آخر الردود : شجون الزهراء - عدد الردود : 0 - عدد المشاهدات : 192 ]       »     مجلس شهادة أمير المؤمنين الإما... [ الكاتب : شجون الزهراء - آخر الردود : شجون الزهراء - عدد الردود : 0 - عدد المشاهدات : 234 ]       »     الامام علي ابو الأيتام [ الكاتب : شجون الزهراء - آخر الردود : شجون الزهراء - عدد الردود : 0 - عدد المشاهدات : 160 ]       »     عقيلة الطالبيين مدرسة لنسائنا ... [ الكاتب : شجون الزهراء - آخر الردود : شجون الزهراء - عدد الردود : 0 - عدد المشاهدات : 356 ]       »     كيف نكون قريبين من الإمام المه... [ الكاتب : شجون الزهراء - آخر الردود : شجون الزهراء - عدد الردود : 0 - عدد المشاهدات : 184 ]       »     الإمام علي قدر هذه الأمة وقدره... [ الكاتب : شجون الزهراء - آخر الردود : شجون الزهراء - عدد الردود : 0 - عدد المشاهدات : 159 ]       »     ما سَرُ تَعلق اليَتامى بالإمام... [ الكاتب : شجون الزهراء - آخر الردود : شجون الزهراء - عدد الردود : 0 - عدد المشاهدات : 142 ]       »    



 
 عدد الضغطات  : 14594
 
 عدد الضغطات  : 5153


الإهداءات



إضافة رد
#1  
قديم 04-03-2012, 08:04 AM
عضو مميز
السيد هادي الحمامي غير متواجد حالياً
    Male
لوني المفضل Cadetblue
 رقم العضوية : 89
 تاريخ التسجيل : May 2011
 فترة الأقامة : 4742 يوم
 أخر زيارة : 12-13-2012 (10:43 PM)
 المشاركات : 127 [ + ]
 التقييم : 10
بيانات اضافيه [ + ]
افتراضي خُطب الزهراء عليها السلام وشرحها




خُطب الزهراء عليها السلام وشرحها
--------------------------
خطبتها (عليها السلام) في المسجد النبوي
روى عبد الله بن الحسن بإسناده عن آبائه، أنه لما أجمع أبو بكر على منع فاطمة فدك، وبلغها ذلك.
لاثت خمارها على رأسها(1). واشتملت بجلبابها.
وأقبلت في لمةٍ من حفدتها ونساء قومها(2).
تطأُ ذيولها(3).
ما تخرم مشيتها مشية رسول الله (صلى الله عليه وآله)(4).
حتى دخلت على أبي بكر.
وهو في حشد من المهاجرين والأنصار وغيرهم(5).
فنيطت دونها ملاءة(6).
فجلست ثم أنَّت أنَّةً أجهش القوم بالبكاء فارتجَّ المجلس
ثم أمهلت هنيئة، حتى إذا سكن نشيج القوم وهدأت فورتهم(7).
افتتحت الكلام بحمد الله والثناء عليه، والصلاة على رسوله، فعاد القوم في بكائهم، فلما أمسكوا عادت في كلامها.
فقالت (عليها السلام):
الحمد لله على ما أنعم.
وله الشكر على ما ألهمْ.
والثناء بما قدّم.
من عموم نعمٍ ابتداها.
وسبوغ آلاءٍ أسداها(8).
وتمام مننٍ والاها.
جمَّ عن الإحصاء عددُها(9).
ونأى عن الجزاء أمدها(10).
وتفاوت عن الإدراك أبدها.
وندبهم لاستزادتها بالشكر لاتصالها(11).
واستحمد إلى الخلائق بإجزالها.
وثنّى بالندب إلى أمثالها(12).
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له.
كلمةٌ جعل الإخلاص تأويلها.
وضمَّن القلوب موصولها(13).
وأنار في التفكير معقولها.
الممتنع من الأبصار رؤيته.
ومن الألسن صفته.
ومن الأوهام كيفيته.
ابتدع الأشياء لا من شيء كان قبلها(14).
وأنشأها بلا احتذاء أمثلة امتثلها(15).
كوَّنها بقدرته، وذرأها بمشيئته(16).
من غير حاجة منه إلى تكوينها.
ولا فائدة في تصويرها.
إلا تثبيتاً لحكمته وتنبيهاً على طاعته.
وإظهاراً لقدرته، وتعبّداً لبريته.
وإعزازاً لدعوته.
ثم جعل الثواب على طاعته.
ووضع العقاب على معصيته.
ذيادة لعبادة من نقمته(17).
وحياشةً لهم إلى جنته(18).
وأشهد أن أبي محمداً عبده ورسوله.
اختاره وانتجبه قبل أن اجتبله(19).
واصطفاه قبل أن ابتعثه.
إذ الخلائق بالغيب مكنونة.
وبستر الأهاويل مصونة.
وبنهاية العدم مقرونة
علماً من الله تعالى بمآئل الأُمور(20).
وإحاطة بحوادث الدهور.
ومعرفة بمواقع المقدور.
ابتعثه الله إتماماً لأمره.
وعزيمةً على إمضاء حكمه.
وإنفاذاً لمقادير حتمه.
فرأى الأُمم فِرَقاً في أديانها.
عُكَّفاً على نيرانها.
وعابدة لأوثانها.
منكرة لله مع عرفانها.
فأنار الله بمحمد (صلى الله عليه وآله) ظُلمَها(21).
وكشف عن القلوب بُهمها(22).
وجلى عن الأبصار غُمَمها(23).
وقام في الناس بالهداية.
وأنقذهم من الغواية.
وبصَّرهم من العماية.
وهداهم إلى الدين القويم.
ودعاهم إلى الصراط المستقيم.
ثم قبضه الله إليه قبض رأفة واختيار.
ورغبةٍ وإيثار.
فمحمَّد (صلى الله عليه وآله) من تعب هذه الدار في راحة.
قد حفَّ بالملائكة الأبرار.
ورضوان الرب الغفَّار.
ومجاورة الملك الجبَّار.
صلى الله على أبي.
نبيّه، وأمينه على الوحي وصفيّه.
وخيرته من الخلق ورضيّه.
والسلام عليه ورحمة الله وبركاته.
شرحها
(الحمد لله على ما أنعم) إن شكر المنعم واجب شرعاً وعقلاً وعرفاً، يستحق الحمد على ما أنعم الظاهرية كالحياة والصحة ونحوها.
(وله الشكر على ما ألهم) من النعم الباطنية، كالعلم والمعرفة، والغرائز التي ألهم الإنسان وغير الإنسان إيّاها، فإن الإلهام إلقاء في القلب والنفس كالتلقين، وهو تعليم على وجه لا سبيل لأحد للوقوف عليه.
(والثناء بما قدّم) لله تعالى نعم قد أخّرها إلى الدار الآخرة، وهي الجنة ونعميها وغير ذلك ولله تعالى نعم قد قدّمها في هذه الدنيا، قدّمها على بقية النعم، وإليك بعض التفصيل:
(من عموم نعم ابتداها) النعم العامة التي ابتداها الله تعالى كالماء والهواء والتراب والنار وقبلها نعمة الإيجاد والخلق، والنعم الابتدائية كالجاذبية في الأرض، والمسافة المعينة المحدودة بين الأرض والقمر، وبين الأرض والشمس والغطاء الجوي المحيط بالكرة الأرضية المسمى بالطبقة النتروجينية، وغير ذلك ممّا علم به البشر وما لم يعلمه، ابتداها الله قبل أن يستحقها البشر.
(وسبوغ آلاء أسداها) الآلاء السابغة أي النعم الشاملة الكاملة التامة، وأسداها: أعطاها، كنعمة الأعضاء والجوارح والمشاعر والمدارك التي يشعر ويدرك بها الإنسان وغير الإنسان.
(وتمام منن والاها) المنن: جمع منّة. وهي النعمة والعطية والإحسان، وليس المقصود - هنا - المنّة بمعنى المنّ وهو عدّ الإحسان الذي نهى الله تعالى عنه بقوله: (وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ) وقال: (لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذى) ووالاها من الموالاة وهي المتابعة في الإعطاء، أي نعمة بعد نعمة، فالنعم الإلهية متواصلة متواترة.
(وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، كلمة جعل الإخلاص تأويلها) المقصود أن كلمة: (لا إله إلا الله) يعود معناها إلى الإخلاص، كما قال أمير المؤمنين (عليه السلام): (وكمال توحيده الإخلاص له، وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه) فقد قيل: إن المقصود من الإخلاص هو جعله خالصاً من النقائص كالجسم والعرض، وما شاكلهما من النقائص، وكمال الإخلاص له نفي الصفات، أي الصفات الزائدة على ذاته لأن كل موجود متصف بصفته، وصفته غير ذاته، فالإنسان غير العلم، والعلم غير الإنسان ولكن الله تعالى علمه عين ذاته، وبقية صفاته كلها عين ذاته، ولهذا الموضوع بحث مفصّل عند العلماء مذكور في الكتب الكلامية.
(وضمّن القلوب موصولها) أي إن الله تعالى ألزم القلوب المعنى الذي تصل إليه كلمة (لا إله إلا الله) وهو معنى التوحيد الفطري، أي جعل القلوب على هذه الفطرة، قال تعالى: (فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها) والفطرة: الملة، وهي الدين الإسلام والتوحيد، وهي التي خلق الناس عليها ولها وبها، ومعنى ذلك أن الله تعالى خلقهم وركّبهم وصوّرهم على وجه يدل على أن لهم صانعاً قادراً عالماً حياً قديماً واحداً، لا يشبه شيئاً، ولا يشبهه شيء.
(وأنا في الفكر معقولها) أي بسبب التفكير والتعقل أوضح الله المعنى الذي يوصل إليه بعد التدبر والتعمّق، أي معنى كلمة التوحيد، والمقصود منه التوحيد النظري، وقد مضى الكلام عن التوحيد الفطري، ومعنى التوحيد النظري: التفكّر في الدلائل والبيّنات، والنظر في الآيات في الآفاق وفي أنفسهم.
(الممتنع عن الأبصار رؤيته) حيث أن الله تعالى ليس بجسم، ولا جوهر ولا عرض، والعين لا تدرك ولا ترى إلا الأجسام والأعراض، وهي الأمور التي تعرض الجسم، كالألوان والطول والعرض وما شابه ذلك، وحيث أن الإدراك بالبصر إنما يتحقق بانعكاس صورة المرئي في عدسة العين، أو اتصال أشعة العين إلى ذلك الشيء المرئي، وحيث أن الله تعالى ليس بجسم فلا يمكن انعكاسه في العين، ولهذا من المستحيل أن تدركه العيون ولا يمكن لأي موجود أن يرى الله تعالى ويدركه بالعين، كما قال تعالى: (لا تُدْرِكُهُ الأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) وليس هذا الامتناع خاصاً بالرؤية، بل بجميع الحواس الظاهرة كالسامعة والشامة والذائقة واللامسة.
ومن المؤسف جداً أن بعض طوائف المسلمين يعتقدون أن الله تعالى جسم، ويصرّحون بهذا الاعتقاد الفاسد الساقط عبر الإذاعات، رافعين أصواتهم: إن الله ينزل إلى سماء الدنيا وهو راكب على حمار!!
وليس هذا ببعيد من طائفةٍ أصول دينهم وفروعه محمول على أكتاف رجل يصفونه بالكذب والتزوير والتلاعب، واختلاق الروايات وإسنادها إلى رسول الله وغيره، ويكتبون أن عمر بن الخطاب ضربه بالدرّة ومنعه عن الحديث لكثرة الأكاذيب التي كان يختلقها ويصوغها في بوتقة الدجل والتزوير.
وسمعت أيضاً من بعض مدّعي العلم - عبر الإذاعة -: أن الرسول رأى ربه ليلة المعراج رؤية عين.
يا للكفر، يا للإلحاد، يا للزندقة، يا للجهل.
القرآن يقول: لا تدركه الأبصار، والجهال يقولون: تدركه الأبصار، يتركون كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ويخأذون بقول مخلوق إن لم نقل إنه كذاب فهو جاهل يخطئ ويصيب.
وإذا كان بعض المسلمين يجهلون أو ينحرفون عن التوحيد الذي هو أصل الدين فكيف بالنبوة والإمامة والمعاد؟ وكيف بفروع الدين والأحكام الفقهية والأمور الدينية والقضايا الشرعية؟
(ومن الألسن صفته) أي لا يمكن وصف الله تعالى كما لا يمكن رؤيته، وكيف يستطيع الإنسان أن يصف شيئاً لم يره، ولم يحط به إحاطة، كما قال علي (عليه السلام): (ليس لصفته حد محدود، ولا نعت موجود) لأنه صفائه عين ذاته، فكما إنه لا يمكن إدراك ذاته كذلك لا يمكن إدراك صفاته التي هي عين ذاته.
(ومن الأوهام كيفيته) إن الله تعالى جعل للإنسان قوى باطنية، وهي الحواس الخمس الباطنية، وهي الذاكرة والحافظة والواهمة والمفكرة والحس المشترك والواهمة هي القوة التي تدرك بها الأشياء الجزئية، كأن يتصوّر الإنسان امرأة جميلة، أو قصراً شاهقاً أو حديقة غنّاء، أو ما شابه، وكل ما تصوّره الإنسان أو توهمه فهو مخلوق، ولا يستطيع الإنسان أن يتصوّر الخالق تصوّراً صحيحاً حقيقياً، أي لا يستطيع أن يعلم كيف هو؟ وهو تعالى لا يكيّف بكيف؟ أي لا يمكن تصوّر الكيفية في ذاته.
(ابتدع الأشياء لا من شيء كان قبلها) أي خلق الله الكائنات لا من مادة، أي أوجدها وما كانت موجودة، ويقول الماديون: لا يمكن أن يوجد شيء إلا من مادة، والمادة أصل الأشياء.
فإذا سألتهم: وما المادة من أي شيء وجدت؟ وأين وجدت؟ ومن أوجدها؟ تراهم يسكتون ولا يحيرون جواباً، لأنهما إذا قالوا: إن المادة وجدت من غير مادة. قلنا لهم: فما المانع أو توجد الموجودات الأخرى من غير مادة؟ وإذا قالوا: إن المادة وجدت من مادة أخرى نسألهم: المادة الأخرى من أي شيء وجدت؟ وهكذا وهلمّ جراً.
فالاعتقاد بأن الله تعالى خلق الأشياء لا من شيء أفضل وأسلم من نظريات الماديين. (وأنشأها بلا احتذاء أمثلة امتثلها) أوجد الله تعالى الأشياء لا من مادة ولا من شيء بلا اقتداء بأحد في تصويرها، انظر إلى الاختراعات الحديثة إنما اقتدى مخترعوها بأشياء أخرى، صنعوا الطائرة حينما نظروا إلى الطيور وكيفية طيرانها، وكيف تلصق رجليها إلى بطنها وقت الطيران، وترسل رجليها حين الهبوط، وصنعوا الغواصة حينما نظروا إلى السمكة تغوص في الماء متى شاءت، وتطفو على الماء متى أرادت.
وهكذا التطورات في المصانع والمعامل كلها من احتذاء أمثالها، والاقتداء بأشباهها ولكن الله تعالى أوجد الكائنات بلا احتذاء ولا اقتداء ولا اتباع بموجودات أخرى مماثلة ومشابهة لتلك الكائنات.
(كوّنها بقدرته) أوجد الله تعالى الأشياء بقدرته الجامعة الكاملة، بدون مشاركة من أحد، بقدرته وقوته وتمكّنه على الإيجاد والتكوين، لا باستعمال الأدوات والآلات.
(وذرأها بمشيئته) أي خلقها بإرادته دون قوله: وحسب إرادته في الكيفية والصورة والشكل والهيئة والعدد، وبقية الخصوصيات، خلقها بمشيئته بلا إجبار، وبإرادته التي إذا أراد شيئاً يقول له كن فيكون.
(من غير حاجة منه إلى تكوينها) أي إن الله تعالى خلق الكائنات بلا حاجة منه إلى إيجادها وتكوينها مثل أن يستأنس بهم، أو يستعين بهم في الأمور، فله تعالى الكمال الكامل بجميع معنى الكلمة، ولا طريق للاحتياج إلى ذاته المقدسة.
(ولا فائدة له في تصويرها) أي لم تكن لله تعالى فائدة في إحداث تلك الصور والأشكال والهيئات، فإذا نفينا الحاجة والفائدة في التكوين والتصوير ينبغي أن نعلم السبب في ذلك، لأن الفعل بلا سبب لغو، وتعالى الله عن ذلك.
(إلا تثبيتاً لحكمته) وفي نسخة (تبييناً) وعلى كل تقدير، فالمعنى أن المقصود من الإنشاء والتكوين والإيجاد هو إظهار الحكمة الإلهية، وهو تعالى يعلم تلك الحكمة البالغة التي اقتضت إيجاد الكائنات، ولعل من تلك الحكمة إن الله تعالى خلق الكائنات لكي يعرف.
(وتنبيهاً على طاعته) أي خلق الخلائق كي ينبّههم على وجوب طاعته، والانقياد لأوامره، لقوله تعالى: (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ) والإطاعة والعبادة إنما تحصل بعد المعرفة وما قيمة العبادة بغير معرفة؟ وما قيمة المعرفة بدون إطاعة وعبادة؟
(وإظهاراً لقدرته) قدرة الله تعالى كانت موجودة، وإنما أراد إظهار شيء من قدرته فخلق الجمادات والنباتات والحيوانات والإنسان، وأودع في كل واحد من هذه الموجودات آيات من القدرة، فخلق الكواكب والمجرّات، والأفلاك والسماوات، وخلق الكريات الحمر والبيض في الدم، وخلق الذرة وجعل لها قوائم، إلى غير ذلك ممّا يطول الكلام بذكره.
وملخص القول: إن كل موجود من الموجودات تتجلى وتظهر فيه قدرة الله على الإبداع.
(وتعبداً لبريته) خلق الله الموجودات كي ينقادوا لأوامره، وينزجروا عن نواهيه، والعبادة هي الانقياد والطاعة.
(وإعزازاً لدعوته) أي خلق الله الأشياء لتكون تقوية للبراهين والحجج التي يستدلّ بها الداعون إلى الله تعالى من الأنبياء وغيرهم.
(ثم جعل الثواب على طاعته) الإنسان لا يندفع نحو العمل إلا بدافعين: دافع الرغبة وهو الطمع لجلب الخير، ودافع الرهبة وهو الخوف من المكروه، فالتاجر يتجر طلباً للمنافع وخوفاً من الفقر، والطالب يتعلم ويدرس طلباً للثقافة أو التوظف، وهرباً من الجهل الذي يحول بينه وبني الصعود إلى مدارج الكمال.
والإنسان لا ينقاد ولا يطمع إلا طمعاً في الأجر والثواب، وخوفاً من العذاب والعقاب وانطلاقاً من هذه الحكمة جعل الله الثواب وهو الأجر مع التقدير والاحترام جزاء لطاعة والانقياد.
(ووضع العقاب على معصيته) أي جعل قانون العقوبة للعاصين، المخالفين لأوامره المتجاوزين لأحكامه، لماذا؟
(ذيادةً لعباده من نقمته) وضع الله تعالى قانون العقوبة لأجل ردع العباد ومنعهم عن ارتكاب الأعمال التي توجب نقمته أي عقوبته.
(وحياشةً لهم إلى جنته) أي جعل الثواب والعقاب لمنع العباد عن المعاصي، وسوقهم إلى طريق الجنة، أي الأعمال التي يستحق الإنسان بها الجنة، وقد مرّ معنى الحياشة في شرح الكلمات.
(وأشهد أن محمداً عبده ورسوله) أقرّت السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) بالشهادتين بعد أن شرحت كلامها شرحاً كافياً حول التوحيد، فانتقلت إلى ذكر النبوة وما يدور في هذا الفلك، فاعترفت لأبيها - أولاً - بالعبودية الكاملة أي الانقياد والخضوع لله تعالى، وهي درجة يبلغها الإنسان باختياره مع العلم أن النبوة مرتبة تحصل للنبي بغير سعي منه.
ثم اعترفت له بالرسالة، أي إنه نبي مرسل من عند الله تعالى إلى الخلائق بشريعة سماوية ومن المؤسف أن كلمة (الرسالة) صارت تستعمل - في زماننا - في كل مبدأ حق أو باطل، وفي كل فكرة صحيحة أو سقيمة.
(اختاره وانتجبه قبل أن أرسله) انتقاه الله من أهل العالم كما ينتقي أحدنا الفرد الكامل الممتاز من أفراد عديدة، فالفاكهة الواحدة نختارها من مئات أمثالها بعد أن نرى فيها المزايا المتوفرة المستجمعة فيها، المفقودة في غيرها، من حيث الحجم واللون والنضج والطعم والنوع وما شابه ذلك.
وهكذا اختار الله محمدا (صلّى الله عليه وآله) قبل أن يرسله، أي إن أهلية الرسول - واستحقاقه لهذا المنصب الخطير وهو النبوة - كانت ثابتة ومعلومة عند الله تعالى قبل أن ينزل الرسول إلى ساحة العمل والجهاد والدعوة إلى الله، وما كانت - هناك - حاجة للاختبار والامتحان حتى تظهر مواهبه واستعداده وتقبّله للمسؤولية، بل كان الله يعلم كفاءة الرسول لهذا العبء الثقيل.
(وسمّاه قبل أن اجتبله) أي سماه الله محمداً قبل أن يخلقه أو سمّاه (كالخطيبة) يقال في حقها: (سمّيت لفلان) أي تقرّر تزويجها من فلان، فالمعنى - ولا مناقشة في الأمثال - أن الله تعالى قد قرّر في سابق علمه أن يكون محمد (صلّى الله عليه وآله) رسول الله، أو سمّاه الله لأنبيائه قبل أن يخلقه.
(واصطفاه قبل أن ابتعثه) أي اختاره الله تعالى قبل أن يرسله نبيّاً.
(إذ الخلائق بالغيب مكنونة) إن الله تعالى اصطفى محمداً واختاره واجتبله في الوقت الذي كانت الخلائق وهم الناس غير موجودين، بل كانوا في الغيب مختفين مستورين، أي كانوا في علم غيب الله، وما كان لهم وجود في الخارج بحيث ما كان يمكن إدراكهم.
(وبستر الأهاويل مصونة) هذه الجملة تفسير لما قبلها، والأهاويل: جمع أهوال وهي جمع هول، وهو الخوف والأمر الشديد والمقصود: وحشة ظلمات الغيب.
(وبنهاية العدم مقرونة) نهاية الشيء حدوده وآخره، والمقصود أن الخلائق كانت بعيدة عن الوجود أي كانت معدومة.
(علماً من الله بمآئل الأمور) من ذلك الوقت اختار الله محمداً (صلّى الله عليه وآله) بسب علمه بعواقب الأمور وما ترجع إليه الأمور، كان الله يعلم عواقب البشر، وعواقب حالاتهم وشؤونهم، وعواقب رسالة النبي وبعثته، ومواهبه وكفاءته للرسالة بسبب اتصافه بالأخلاق الحميدة والصفات الجميلة، ولهذا اختاره للرسالة من ذلك الوقت.
وقد صرحت أحاديث كثيرة جداً مروية عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله): أن أول ما خلق الله نور محمد (صلّى الله عليه وآله) وهكذا قوله (صلّى الله عليه وآله): إن الله خلق نوري ونور علي قبل أن يخلق آدم أو قبل أن يخلق السماوات والأرض باثنتي عشر ألف سنة أو أربعة وعشرين ألف سنة، وغيرها من الروايات الواردة في الكتب المعتبرة.
(وإحاطة بحوادث الأمور) وبسبب إدراكه تعالى جميع ما يدرك من الوقائع التي تحدث وتتجدد على مر الأعوام والقرون.
(ومعرفة بمواقع المقدور) وبسبب معرفته بأزمنة الأمور وأمكنتها التي قضاها، والمصالح التي رآها تعالى.
(ابتعثه الله إتماماً لأمره) بعث الله محمداً (صلّى الله عليه وآله) إتماماً للحكمة التي خلق الله الأشياء لأجلها، ولعل المقصود هو ختم النبوة برسول الله (صلّى الله عليه وآله).
(وعزيمة على إمضاء حكمه) وإرادة قوية أكيدة لإنفاذ حكمه وقضائه، وتقديره في خلقه.
(وإنفاذاً لمقادير حتمه) وإجراء لمقدوراته الواجبة التي لا يمكن إسقاطها، وهي المقادير المحتومة التي لا تتغير ولا تتبدل.
وهنا تتحدث السيدة فاطمة الزهراء عن الحياة الدينية والتفسّخ العقائدي في ذلك العهد:
(فرأى الأمم فرقاً في أديانها) رأى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أهل الأرض على أديان متفرقة، من يهود ونصارى ومجوس، وصابئة وملاحدة وزنادقة.
(عُكّفاً على نيرانها) ملازمة على عبادة النار، ومواظبة عليها، وهم المجوس الذين كانوا يقدّسون النار إلى حد العبادة، بل ويبنون بيوتاً للنار، ويحافظون على إبقائها كي لا تنطفئ.
(عابدة لأوثانها) جمع وثن وهم الصنم المصنوع من خشب أو حجارة أو غيرها من التماثيل في كنائسهم وبيعهم، ينحنون أمامها، ويركعون ويسجدون لها بقصد العبادة.
(منكرة لله مع عرفانها) جاحدة لله تعالى مع معرفتهم به تعالى كما قال عزّ وجلّ: (يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها) والمقصود أنهم كانوا يعرفون الخالق والصانع بالفطرة والوجدان والعقل، إذ أنهم كانوا يعلمون أن كل مصنوع لابدّ له من صانع، ويعلمون أن الكائنات مخلوقة ولم يدّع أحد من المخلوقين أنه خلق الشمس والقمر والسماء والأرض، فلابدّ من الاعتقاد بوجود صانع لها.
(فأنار الله بمحمد (صلّى الله عليه وآله) ظلمها) أزال الله تعالى - بجهود الرسول وجهاده - تلك الظلمات، ظلمات تلك الأمم، ظلمات الكفر والشرك والجهل، أي إن الأدلة والبراهين التي احتج بها الرسول كانت كفيلة للقضاء على تلك النظريات التي تأسست عليها عبادة النيران والأوثان، وليس المقصود أن الرسول قضى على جميع الأديان الباطلة والعقائد الفاسدة بمعنى إزالتها عن الوجود، بل أثبت أن الإسلام هو الحق وغيره باطل.
(وكشف عن القلوب بهمها) كشف الله - بمحمد (صلّى الله عليه وآله) - عن القلوب مشكلاتها، والأمور المخفية المستورة عنها، كالاعتقاد بالتوحيد والحشر والنشر في القيامة، إذ كانت تلك الأمور من المشاكل الغامضة عندهم، ولكنها انحلّت وانكشفت ببركة الرسول.
(وجلى عن الأبصار غممها) وكشف وأوضح عن العيون الظلمة المبهمة المستولية عليها، والمقصود من الظلمة - هنا - الانحرافات العقائدية التي كانت كالظلمة على أعينهم ولهذا ما كانوا يبصرون الحقائق بسبب تلك الظلمة.
(وقام في الناس بالهداية) قام رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بإراءة الطريق للناس ونصب لهم العلامات الدالة على الحق والحقيقة، على التوحيد والنبوة والمعاد.
(وأنقذهم من الغواية) أنقذهم من الضلالة التي كانوا يعيشون فيها، ويموتون عليها، الضلالة في العقائد، في الأخلاق، في الآداب والسلوك، في العادات والتقاليد فكأنهم مغرقون في البحر، فأنقذهم الرسول من الغرق، وأسعفهم من الهلاك.
(وبصّرهم من العماية) جعلهم أصحاب بصر وبصيرة، فالأعمى - لغةً - هو الذي لا يرى شيئاً، والأعمى - مجازاً - هو الذي لا يدرك الحقائق كما هي، فإذا تعلم صار بصيراً.
(وهداهم إلى الدين القويم) للهداية معاني عديدة، منها إراءة الطريق لمن لا يعرف الطريق، ومنها الإيصال إلى المطلوب، ولقد قام رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بالهداية بكلا المعنيين: أراهم طريق السعادة وأوصلهم إلى سعادة الدنيا والآخرة.
(ودعاهم إلى الصراط المستقيم) أي الطريق الذي لا اعوجاج فيه، وهو الإسلام.
(ثم قبضه الله إليه قبض رأفة واختيار، ورغبة وإيثار) أي توفّاه الله وأخذه إلى عالم الآخرة بسبب الرأفة لا الغضب والسخط، وباختيار منه لا بإجبار وإكراه أو باختيار من الله تعالى له الآخرة وإرادة منه تعالى، وفضّل له الآخرة على الدنيا كما قال عزّ وجلّ: (وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولى).
(فمحمد (صلّى الله عليه وآله) من تعب هذه الدار في راحة) من مشاكلها ونوائبها، وما كان يرى فيها من أنواع الأذى والمخالفة، فإن الموت راحة لأولياء الله، وإن حياة الأنبياء حياة متعبة لأنها جهود وجهاد، ومشقة وعناء.
(قد حُفّ بالملائكة الأبرار) الذين حفّوا به والتفوا حوله، ورافقوا روحه الطاهرة إلى الرفيق الأعلى إلى أعلى عليين.
(ورضوان الرب الغفار) الذي شمله في ذلك العالم بصورة أوسع، لأن الدنيا تضيق عن ظهور جميع آثار رضى الله، ولكن الآخرة واسعة المجال. (ومجاورة الملك الجبار) فهو في حفظ الله وذماره وقريب من ثوابه وألطافه.
(صلى الله على أبي، نبيه وأمينه على الوحي وصفيّه) الأمين الذي أُؤتمن على الوحي والرسالة وصفيّه الذي اصطفاه من خلقه.
(والسلام عليه ورحمة الله وبركاته) وفي نسخة: (فمحمد (صلّى الله عليه وآله) في راحةٍ من تعب هذه الدار، موضوعاً عنه أعباء الأوزار، محفوفاً بالملائكة الأبرار).
1 - لاثت: شدّت. والخمار: ثوب يغطى به الرأس.
2 - اللّمة - بضم اللام وتخفيف الميم -: الجماعة: الحفدة، الخدم.
3 - كناية عن شدة التستر.
4 - ما تنقص مشيتها عن مشية أبيها من حيث الوقار والكيفية.
5 - الحشد: الجماعة
6 - نيطت: علّقت والملاءَة الإزار والثوب الليّن الرقيق.
7 - النشيج: صوت البكاء مع التوجع. والفورة: الشدّة.
8 - سبوغ النعم: اتساعها.
9 - جمَّ: كثر.
10 - نأى: بَعُد. وهكذا تفاوت.
11 - ندبهم: دعاهم والاستزادة: طلب زيادة الشكر. وهكذا استحمد.
12 - ثنى بالندب: أي كما أنه ندبهم لاستزادتها كذلك ندبهم إلى أمثالها من موجبات الثواب.
13 - جعل القلوب محتوية لمعنى كلمة التوحيد.
14 - أحدثها.
15 - الاحتذاء: الاقتداء. وحذو النعل بالنعل أي قطع النعل على مثال النعل وقدرها.
16 - ذرأها: خلقها.
17 - ذيادة: منعاً.
18 - حياشة لهم: سوقهم.
19 - اجتبله: فطره.
20 - المآئل: جمع مئال - أي المرجع.
21 - ظُلم: جمع ظلمة.
22 - البُهم: جمع بهمة وهي مشكلات الأمور.
23 - الغمم - جمع غمّة - الشيء الملتبس المستور

(2)
خطابُها (عليها السلام) إلى الحاضرين في المَسْجِد
ثم انتقلت (عليها السلام) من ذكر النبوة إلى ذكر ما تركه الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) من الثقلين: الكتاب والعترة الذين يقومان مقام النبي فقالت - وهي مخاطبة للحاضرين في المسجد النبوي حينذاك -:
أنتم - عباد الله - نصب أمره ونهيه(1).
وحَمَلة دينه ووحيه.
وأُمناءُ الله على أنفسكم(2).
وبلغاؤه إلى الأُمم(3).
زعيم حقّ له فيكم.
وعهد قدّمه إليكم.
وبقيّة استخلفها عليكم.
كتاب الله الناطق.
والقرآن الصادق.
والنور الساطع(4).
والضياء اللامع(5).
بيّنة بصائره، منكشفة سرائره(6).
متجلّية ظواهره(7).
مغتبط به أشياعه(8).
قائد إلى الرضوان اتّباعه.
مؤدٍّ إلى النجاة استماعه.
به تُنال حجج الله المنوّرة.
وعزائمه المفسَّرة(9).
ومحارمه المحذَّرة.
وبيّناته الجالية(10).
وبراهينه الكافية.
وفضائله المندوبة(11).
ورُخَصُه الموهوبة.
وشرائعه المكتوبة(12).
فجعل الله الإيمان تطهيراً لكم من الشرك.
والصلاة تنزيهاً لكم من الكبر.
والزكاة تزكية للنفس ونماءً في الرزق.
والصيام تثبيتاً للإخلاص.
والحج تشييداً للدين.
والعدل تنسيقاً للقلوب(13).
وإطاعتنا نظاماً للملّة وإمامتنا أماناً للفرقة.
والجهاد عزّاً للإسلام.
والصبر معونة على استيجاب الأجر.
والأمر بالمعروف مصلحة للعامّة.
وبرَّ الوالدين وقايةً من السخط.
وصِلَة الأرحام منماةً للعدد(14).
والقصاص حقناً(15) للدماء.
والوفاء بالنذر تعريضاً(16) للمغفرة.
وتوفية المكاييل(17) والموازين تغييراً للبخس.
والنهي عن شرب الخمر تنزيهاً عن الرجس.
واجتناب القذف حجاباً عن اللعنة.
وترك السرقة إيجاباً للعفّة.
وحرّم الشرك إخلاصاً له بالربوبية.
فاتقوا الله حق تقاته، ولا تموتن إلاّ وأنتم مسلمون.
وأطيعوا الله فيما أمركم به ونهاكم عنه.
فإنه إنما يخشى الله من عباده العلماء.
شرحها
(أنتم - عباد الله - نصب أمره ونهيه) كلمة: (عباد الله) جملة معترضة بين المبتدأ والخبر، والمعنى: أخص بالخطاب عباد الله أنتم نصب أمره ونهيه، أي أنتم منصوبون لأوامره الله تعالى ونواهيه، لأنكم كنتم موجودين عند ورود الأوامر والنواهي، والخطاب موجّه إليكم.
(وحَملة دينه ووحيه) أي الحاملون لأحكام الدين لمشاهدتكم سيرة الرسول والأحكام التي كان (صلى الله عليه وآله) يصدّرها، وأنتم الحاملون لآيات القرآن حينما كان جبرئيل ينزل بها على الرسول يعلّمكم إيّاها.
(وأُمنا الله على أنفسكم) أنتم الذين ائتمنكم الله على دينه حتى تتلقوا الأحكام من الرسول ثم تلقوها إلى الأفراد الذين لم يتعلّموا تلك الأحكام.
(وبلغاؤه إلى الأمم) لا شك أن العلوم تنتقل من جيل إلى جيل على مرّ القرون، وحيث أنكم عاصرتم الرسول وسمعتم أحاديثه وتعلَّمتم سُنّته يجب عليكم أن تبلّغوا تلك الأوامر والتعاليم والأحاديث والسنن إلى الأجيال القادمة، فأنتم مبلّغو الدين الإسلامي إلى الأمم القادمة وعليكم هذه المسؤولية العظمى تجاه الإسلام والمسلمين، فيجب عليكم أداء الأمانة سليمة من التلاعب، وتبليغ الأحكام كما أنزلها الله بدون تحريف أو تغيير. لأنكم الوسائط بين الرسول (صلى الله عليه وآله) وبين بقية المسلمين فإن أحسنتم الأداء فلكم الأجر الجزيل، وإن خنتم في الأداء والتبليغ فعليكم أوزار كل انحراف يحدث في الدين وفي المسلمين.
(زعيم حق له فيكم، وعد قدمه إليكم، وبقية استخلفها عليكم) هذه الجملات ذكرها أكثر رواة الخطبة، ولكنها لا تخلو من الاضطراب والغموض، ولعل في الكلام سقطاً وحذفاً وقد ذكر شرّاح الخطبة وجوهاً محتملة لهذه الكلمات لا تخلو من تكلّف وتعسّف، ولكن النتيجة والمقصود أن الرسول (صلى الله عليه وآله) عهد إليكم بما يجب عليكم، وترك فيكم بقية منه جعلها خليفة له عليكم، ومعنى البقية هو ما يخلفه الإنسان في أهله من الآثار واللوازم، والمراد أن الرسول ترك فيكم ما يسدّ الحاجة ويكفي الأمة الإسلامية مهامّها، وفي بعض النسخ: (وبقية استخلَفَنا عليكم، ومعنا كتاب الله) وهذه الجملة تشير إلى الحديث المشهور المعتبر عند المسلمين وهو قوله (صلى الله عليه وآله): (إني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، وإنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض) وهنا تتحدث السيدة فاطمة الزهراء عن أحد الثقلين وهو القرآن الكريم فقالت: (كتاب الله الناطق) أي المبيّن الموضّح، كالإنسان الذي يتكلم بكل وضوح.
(والنور الساطع) قد ورد في القرآن الكريم التعبير عن القرآن بالنور كقوله تعالى: (فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا والله بما تعملون خبير)(18).
(والضياء اللامع) وهو النور المشرق، لا النور الضئيل الخفي.
(بيّنة بصائره) أي واضحة حججه وبراهينه فأدلّة التوحيد والنبوة والإمامة والبعث في يوم القيامة وغير ذلك من الأدلة والبراهين تجدها واضحة عند أهلها، وعند كل من يعرف منطق القرآن، ويفهم المناسبة بين الدليل والمدلول، والعلة والمعلول، استمع إلى قوله تعالى: (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا) وقوله: (وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم) وقوله: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) وقوله: (قل لئن اجتمعت الجن والإنس على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً) وغيرها من الآيات التي هي أدلة وبراهين وحجج على ما ذكره الله تعالى.
(منكشفة سرائره) في القرآن آيات واضحة الدلالة، ظاهرة المعنى، وآيات تشتمل على معاني دقيقة وأسرار خفية كأسرار الكيمياء الغيبيّة، أو الآيات المتشابهات، وهي كلها منكشفة ومعلومة عند أولي الألباب، والراسخين في العلم.
(متجلية ظواهره) ظواهر القرآن واضحة كمال الوضوح.
(مغتبط به أشياعه) أي إن أتباع القرآن يبلغون منزلة عند الله بحيث يغبطهم الناس، أي يتمنى الناس الوصول إلى تلك الدرجات التي نالها الذين اتبعوا القرآن.
(قائد إلى الرضوان إتباعه) القرآن يقود إلى رضوان الله تعالى أو اتّباع القرآن يقود إلى الرضوان والنتيجة واحدة.
(مؤدٍّ إلى النجاة استماعه) أي الاستماع إلى القرآن يؤدي إلى النجاة كما قال تعالى: (وإذا قُرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون) سيّما إذا كان مع الاستماع تدبّر وتعقّل، لأن الخوف من الله يحصل باستماع القرآن، وكذلك الرجاء به، وهكذا ينجو الإنسان من عذاب الله تعالى، فكم من كافرٍ أسلم بسبب استماع القرآن؟ وكم من مذنب تاب؟ وكم من منحرف اعتدل وكم من شاكٍ استقام وتيقّن.
(به تُنال حجج الله المنوَّرة) الحجة ما يحتج به الإنسان ويمكن الاستدلال والاحتجاج به في القضايا العقلية والأحكام الشرعية، والأمور العرفية.
(وعزائمه المفسَّرة) أي الواجبات التي فسرها القرآن نفسه، أو النبي (صلى الله عليه وآله) أو أئمة أهل البيت (عليهم السلام) لأن القرآن نزل في بيوتهم، وأهل البيت أدرى بما في البيت، فسّروا أحكام العبادات وكيفيتها والخصوصيات المتعلقة بها من الوضوء إلى الغسل إلى الصلاة إلى الصوم والحج والجهاد وغير ذلك من الواجبات.
(ومحارمه المحذّرة) حذّرّ الله تعالى في القرآن عباده عن ارتكاب المحرّمات حذَّرهم بالعذاب الأليم في الدنيا أو الآخرة.
(وبيناته الجالية) أي المحكمات الواضحة التي لا تحتاج إلى تأويل.
(وبراهينه الكافية) وفي نسخة: (وجُمَله الكافية) أي المتشابهات المعلومة عند الراسخين في العلم.
(وفضائله المندوبة) وهي الأمور المستحبة التي ندب الله تعالى عباده إليها أي دعاهم إليها بدون إلزام كصلاة الليل وأمثالها.
(ورٌخصه الموهوبة) في القرآن أحكام واجبة كما تقدم الكلام عنها، ومخيّرة وهي المستحبات التي يتخير الإنسان فيها.
(وشرائعه المكتوبة) شرائع: جمع شريعة، وهي ما شرّع الله أي قرّره لعباده من الدين تشبيهاً بمورد الماء، والمكتوبة هي الواجبة المفروضة.
كَلاَمُهَا حَوْلَ فلسَفَةِ الأحكَام
ثم انتقلت (عليها السلام) إلى ذكر الفلسفة الإسلامية، أو علل الأحكام في الشريعة الإسلامية وما هناك من فوائد وأسرار، وحكَم في التشريع الإسلامي التي هي للوقاية أكثر مما هي للعلاج، وقد قيل: (الوقاية خير من العلاج) وسيتضح لك ذلك، قالت (عليها السلام):
(فجعل الله الإيمان تطهيراً لكم من الشرك) وفي نسخة: (ففرض الله الإيمان) الآيات الواردة في القرآن الكريم، الآمرة بالإيمان بالله وحده، إنما هي لغرض التطهير من أرجاس الشرك بالله، فالشرك بمنزلة المكروبات الضارة، والإيمان تعقيم لها، فالشرك قذارة متعلقة بالأذهان، ملتصقة بالعقول، قد تلوثت بها القلوب، والإيمان تطهير عام لإزالة تلك القذارة.
(والصلاة تنزيهاً لكم عن الكبر) المقصود من تشريع الصلاة هو القضاء على رزيلة الكبر، لأن الصلاة خضوع وخشوع لله وركوع وسجود وتذلل، وأكثر المصابين بداء الكبرياء هم التاركون للصلاة.
(والزكاة تزكية للنفس ونماءً في الرزق) وفي نسخة: (والزكاة تزييداً لكم في الرزق) إنّما سُميت الزكاة لأنها تزكي الإنسان، استمع إلى قوله تعالى: (خُذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها) وقد جعل الله تعالى البركة والنمو في إعطاء الزكاة، فيأذن الله للأرض أن تجود ببركاتها فيكثر الزرع ويمتلئ الضرع، وتتراكم الخيرات، وتتضاعف الثمار.
(والصيام تثبيتاً للإخلاص) قد يمكن أن يصلي الإنسان قصد الرياء، ولا يمكن أن يصوم ويطوي نهاره جائعاً عطشاناً، ويتحمل المشقة لسبب الإمساك والامتناع عما يشتهي بقصد الرياء، فالصوم من أظهر العبادات الخالصة لوجه الله الكريم.
(والحج تشييداً للدين) للحج فوائد ومنافع معنوية لا تتحقق بغير الحج، فالحج عبارة عن عدد كبير من المسلمين من بلاد بعيدة وأقطار عديدة، من شرق الأرض وغربها وعن كل قطر يسكن فيه مسلم يستطيع الحج، في أيام محدودة وأماكن معينة، على هيئات خاصة وكيفيات مخصوصة، فيلتقي بعضهم ببعض، ويتعرّف المسلم الأفريقي بالمسلم الآسيوي، ويطلّع المسلم الشرقي على أحوال المسلم الغربي وما هناك من فوائد تحصل من تلك اللقاءات أضف إلى ذلك الفوائد التي تعود إلى نفس الإنسان الحاج من الخضوع والتذلل لله، والتوبة والاستغفار وغير ذلك مما يطول الكلام بذكره.
(والعدل تنسيقاً للقلوب) وفي نسخة: (وتنسيكاً للقلوب) لا أعرف لتعليل العدل تعريفاً أحسن وأكمل من هذا التعريف، لأن تنسيق القلوب تنظيمها كتنسيق خرز السبحة، وتنظيمها بالخيط، فلو انقطع الخيط تفرقت الخرز وتشتتت، واختل التنظيم وزال التنسيق.
إن العدل في المجتمع بمنزلة الخيط في السبحة، فالعدل الفردي والزوجي والعائلي والاجتماعي والعدل مع الأسرة ومع الناس يكون سبباً لتنظيم القلوب وانسجامها بل واندماجها، وإذا فقد العدل فقد الانسجام، وجاء مكانه التنافر والتباعد والتقاطع، وأخيراً التقاتل.
وليست العدالة من خصائص الحكّام والولاة والقضاة، بل يجب على كل إنسان أن يسير ويعيش تحت ظلال العدالة، ويعاشر زوجته وعائلته وأسرته ومجتمعه بالعدالة إبقاءً لمحبة القلوب.
(وإطاعتنا نظاماً للملة) وفي نسخة: (وطاعتنا) كل أمة إذا أرادت أن تعيش لا بدَّ لها من اختيار نظام حاكم سائد، والنظام كلمة واسعة النطاق، كثيرة المصداق غزيرة المعاني.
فالحكومات، وتشكيل الوزارات، وتنظيم الدوائر، وسنّ القوانين، وإصدار التعاليم في شتى المجالات يقال لها: نظام. ولا بدّ - طبعاً - من تنفيذ النظام، والخضوع والانقياد له، ويقال له: التنظيم.
فإذا كان النظام صالحاً انتشر الصلاح في العباد والبلاد، وإذا كان النظام فاسداً ظهر الفساد في البر والبحر.
والأمة الإسلامية التي تعتبر نفسها في طليعة الأمم الراقية المتحضرة لا بدّ وأن يكون لها نظام، وإن الله تعالى جعل إطاعة أهل البيت (عليهم السلام) نظاماً للملة الإسلامية، ومعنى ذلك أن الله جعل القيادة العامة المطلقة العليا، والسلطة لأئمة أهل البيت الاثني عشر (عليهم السلام) وهم عترة الرسول (صلى الله عليه وآله) فقط، لا كل من يستلم زمام الحكم، أو يجلس على منصة القيادة تجب إطاعته وتنفيذ أوامره.
وإنما جعل الله إطاعة أئمة أهل البيت نظاماً للمسلمين لأن الله تعالى زوَّدهم بالمواهب، ومنحهم الأهلية، وأحاطوا علماً بكل ما ينفع المجتمع ويضرّه، وبكل ما يُصلح الناس ويفسدهم.
وجعلهم الرسول عدل القرآن بقوله (صلى الله عليه وآله): إني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، وإنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض، وإنكم لن تضلوا ما إن تمسكتم بهما.
ولقد سبق أن تحدثت السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) عن القرآن وأنه بقية استخلفها عليكم، ثم ذكرت بعض ما يتعلق بعظمة القرآن. ثم انتقلت إلى ذكر فلسفة الإسلام ثم انتقلت إلى ذكر الثقل الثاني، وهم العترة، وهم أهل البيت، وهم أولو الأمر الذين أوجب الله إطاعتهم على العباد بقوله تعالى: (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأُولي الأمر منكم).
فوالله لو أن المسلمين فسحوا المجال - من أول يوم - لأهل البيت وأطاعوهم لكانت الدنيا روحاً وريحاناً وجنة نعيم، وكانت السعادة شاملة لجميع طبقات البشر على مرّ القرون، وما كانت تحدث المفاسد والمجازر والمذابح على وجه الأرض، وما كانت الأموال تسلب، والأعراض تُهتك، والنفوس تزهق ظلماً، وما كان الجهل والأمية والتأخير والتفسخ منتشراً بين الأمة الإسلامية، وما كان في الأرض فقر ولا حرمان، ولا اضطهاد ولا جوع.
نحن لا نزال في شرح كلمات السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) وقد طال بنا الكلام هنا، لأن الموضوع يتطلب شيئاً من التفصيل مع العلم أننا لم نؤد حق المقام.
فالبحث عن القيادة الإسلامية أو الإمامة الصحيحة بحث واسع يحتاج إلى موسوعة كبرى، وتحليل وتحقيق شاملين كاملين.
(وإمامتنا أماناً للفرقة) وفي نسخة: (لمّاً للفرقة) إمام على وزن كتاب هو المقتدى، انظر إلى إمام الجماعة كيف يقتدي به المأمومون في أفعال الصلاة من قيام إلى ركوع وسجود وهكذا، فهو مقتدى في أفعال محدودة، ولهذا يقال له: إمام صلاة الجماعة، أو إمام الجماعة في الصلاة.
والإمامة الكبرى التي هي الخلافة العظمى، منصب سماوي، ومنزلة تتعيّن من عند الله تعالى، لأنها تالية للنبوة من حيث العظمة والأهمية، انظر إلى أولياء الله كيف يسألون الله تعالى أن يبلغهم تلك المنزلة الرفيعة والدرجة السامية.
فهذا إبراهيم الخليل (عليه السلام) يأتيه النداء من عند الله تعالى: (إني جاعلك للناس إماماً) أي المقتدى به في أفعاله وأقواله، وأنه الذي يقوم بتدبير الأمة وسياستها والقيام بأمورها، وتأديب جناتها، وتولية ولاتها، وإقامة الحدود على مستحقيها ومحاربة من يكيدها ويعاديها، وليس المقصود من الإمامة - هنا - النبوة، لأن إبراهيم كان نبياً حينذاك وإنما أضاف الله له الإمامة إلى النبوة.
وأنت إذا أمعنت النظر في قوله تعالى: (إني جاعلك) يتضح لك أن تعيين الإمام يجب أن يكون من عند الله، ولا يحق للناس أن يعينوا لأنفسهم إماماً حسب آرائهم الشخصية وهواياتهم الفردية.
وإذا تدبرت بقية الآية تنكشف لك حقائق أخرى وهي قوله: (ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين) أي لما أخبر الله إبراهيم بالإمامة قال إبراهيم: (ومن ذريتي) أي واجعل من ذريتي من يوشّح بالإمامة وبهذه الكرامة. قال تعالى: (لا ينال عهدي الظالمين) قال مجاهد: العهد الإمامة، وقد روى ذلك عن الإمامين: الباقر والصادق (عليهما السلام) أي لا يكون الظالم إماماً للناس، وهذا يدل على عصمة الأئمة، لأن الله سبحانه نفى أن ينال عهده (الذي هو الإمامة) ظالم، ومن ليس بمعصوم فقد يكون ظالماً إما لنفسه وإما لغيره.
وإذا تأملت في هذه الآيات البينات يتضح لك أن المناصب السماوية والوظائف الإلهية ينبغي أن تكون من عند الله تعالى وتعيينه وجعله، تدبّر في قوله تعالى: (يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض)(19).
(وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب)(20).
(ولقد آتينا موسى الكتاب وجعلنا معه أخاه هارون وزيراً)(21).
(وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا)(22).
(إني جاعلك للناس إماماً)(23).
(واجعلنا للمتقين إماماً)(24).
(واجعل لي وزيراً من أهلي هارون أخي)(25).
وغيرها من الآيات التي تتجلى فيها كلمة: (جعلنا) و(اجعلنا) و(جعلناهم) وما أشبه ذلك.
وهنا تقول الزهراء (عليها السلام): (وإمامتنا) إنها تقصد إمامة الأئمة الاثني عشر، وشخص زوجها العظيم أبا الأئمة علياً (عليه السلام).
(والجهاد عزاً للإسلام) العزة لا تحصل إلا بالقوة، وتظهر القوة باستعمال السلاح واستعراض الجيش، وإظهار المعدات الحربية، وتجلّي البطولات وغير ذلك.
وأحسن استعراض للقوة وإثبات الشخصية هو الجهاد في سبيل الله، فالقوة والقدرة والإمكانية والتضحية، ومدى تعلق المسلمين بالمبدأ، والمواهب التي تظهر في جبهات القتال، وتظهر النتيجة بالانتصار والظفر والغلبة على أعداء الدين، واستيلاء الخوف على كل مناوئ للإسلام، والقوي لا يخضع إلا للقوة، لا للإنسانية فقط، ولا للثروة فقط، بل للقوة، وهكذا تجتمع العزة للأمة القوية، وللمبدأ الذي يعتنقه الأقوياء.
(والصبر معونة على استيجاب الأجر) الصبر على المكاره من فقر إلى مرض إلى دَين إلى سجن إلى مصيبة، يدل على التسليم لإرادة الله تعالى، والتسليم فضيلة سامية ومنزلة عالية يستعين بها الإنسان الصابر على تحصيل الجزيل، والثواب الأوفى، وبالصبر يتم فعل الطاعات وترك السيئات.
(والأمر بالمعروف مصلحة للعامة) فرض الله الأمر بالمعروف على كل مكلف في حدود القدرة والإمكانية بشروط معينة مذكورة في محلها، ويعتبر نوعاً من الجهاد، ومعنى ذلك أن كل فرد من أفراد المسلمين يعتبر نفسه مسؤولاً عن الدين مرتبطاً به، غير منفصل عنه، وهو تفسير عملي لقوله (صلى الله عليه وآله): (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته) لأن الإسلام لا يؤمن باللامبالاة وبالانعزال عن المجتمع الديني، لأن الإسلام يعتبر المسلمين أسرة واحدة مترابطة، وأمة واحدة يربطها رباط الدين والعقيدة.
(وبر الوالدين وقاية من السخط) وفي نسخة: (والبر بالوالدين وقاية من السخطة) ومعنى ذلك أن عقوق الوالدين يُسبب سخط الله وغضبه على العاق لوالديه، إذن يكون الإحسان إليهما سبباً للوقاية من غضب الله تعالى، وبعد إلقاء نظرة على الآيات التي توصي برعاية حقوق الوالدين تتضح لنا أهمية هذا الجانب الأخلاقي:
(ووصينا الإنسان بوالديه حسناً..)(26).
(ويسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين..)(27).
(واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً..)(28).
(قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألاّ تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً)(29).
(وقضى ربك ألاّ تعبدوا إلاّ إياه وبالوالدين إحساناً إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أفٍّ ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريماً واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل ربِّ ارحمهما كما ربياني صغيراً)(30).
(ووصينا الإنسان بوالديه حملته أُمه وهناً على وهن وفصاله في عامين أن أشكر لي ولوالديك إليَّ المصير وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفاً..)(31).
(ووصينا الإنسان بوالديه إحساناً حملته أُمه كرهاً ووضعته كرهاً وحمله وفصاله ثلاثون شهراً حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت عليَّ وعلى والدي وأن أعمل صالحاً ترضيه وأصلح لي في ذريتي إني تبت إليك وإني من المسلمين أُولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة وعد الصدق الذي كانوا يوعدون)(32).
بعد الانتباه إلى هذه الآيات ينكشف لنا معنى كلامها (عليها السلام): وبرّ الوالدين وقاية من السخط، وهذا البحث يتطلب مزيداً من الشرح والتفصيل، ولكننا اكتفينا بما تيسر.
(وصلة الأرحام منماة للعدد) وفي نسخة: (وصلة الأرحام منسأة للعمر، ومنماة للعدد) إن للأعمال آثار طبيعية ولا يمكن التخلف عنها، فالذي يصل رحمه - أي أقربائه الذين تجمعه وإياهم رحم من أرحام الأمهات - باللسان أو باليد أو بالمال لا بد وأن يكون طويل العمر، كثير النسل والعدد، كثير المال، ولقد وردت أحاديث كثيرة متواترة جداً حول صلة الرحم، وإنها تزيد في الثروة وتؤخر الأجل (أجل الموت).
وكذلك قطع الرحم يسبب قصر العمر وزوال المال، ولقد شاهدنا في عصرنا الكثير من الناس الذين وصلوا أرحامهم فدرّت عليهم الأيام خيرها وبركاتها، وكثير عددهم ونسلهم مع العلم أن مؤهلات التكاثر لم تكن متوفرة فيهم.
وقد رأينا الكثيرين من أبناء زماننا الذين قطعوا أرحامهم أي قطعوا العلاقات الودية (بجميع أنواعها) مع أقربائهم، فكأنهم قطعوا جذور أعمارهم، وهدموا أُسس حياتهم وبقائهم بأيديهم فانقرضوا بعد أن افتقروا.
(والقصاص حقناً للدماء) لا يوجد في سجلات القوانين في العالم كله قانون المحافظة على حياة الناس كقانون القصاص، ولهذا قال تعالى: (ولكم في القصاص حياة يا أٌولي الألباب لعلكم تتقون)(33).
والعجب أن القضاء على حياة القاتل يعتبر إبقاءً وحفظاً لحياة الآخرين، إذ أن الإنسان إذا عزم على قتل أحد ظلماً إذا علم أنه سوف يُقتص منه، ويُقتل، فإنه بالقطع واليقين سيمتنع من الإقدام على الجريمة، ولكنه إذا علم أن جزاءه السجن، وفي السجن الراحة والأكل والشرب، ورجاء شمول العفو، والتخفيف، أو دفع العوض وما شابه ذلك من الرشوة وشفاعة الشافعين لدى السلطة الحاكمة، فعند ذلك تهون عنده الجريمة، ويستسهل الجناية، ويقدم على إراقة الدماء البريئة ظلماً وعدواناً.
إن قانون الكفار السائد في البلاد الإسلامية لا يؤمن بالقصاص من القاتل ويزعم القانون أن القصاص لا يحيي المقتول فلا فائدة في تكرار القتل، فوضعوا السجون والأعمال الشاقة عقوبة للقاتل، ومع ذلك تجد السجون في العالم مليئة بالمجرمين المرتكبين لجريمة القتل، وتجد جرائم القتل في التزايد والتكاثر في كل زمان وكل مكان.
والعجب أن الله تعالى يخاطب العقلاء بقوله: (يا أُولي الألباب) ويعقبه بجملة: (لعلكم تتقون) يخاطب الله تعالى العقلاء الذين يفهمون ويعقلون أن القصاص أحسن رادع وأقوى مانع عن القتل، والقصاص أفضل وأحسن من السجن والتعذيب وما شابه ذلك.
ولكن القانون الإلهي أصبح مهجوراً متروكاً، والقانون الغربي هو القانون المفضل على أحكام الله تعالى، وبذلك فلتقر عيون المسلمين.
وكيف يرجو المسلمون لأنفسهم السيادة والعزة والاستقلال وهم أذناب وأتباع لليهود والنصارى في أحكامهم وقوانينهم بل وحتى في تاريخهم فالتاريخ الهجري الإسلامي صار نسياً منسياً، والتاريخ الميلادي هو المعروف المتبع في البلاد الإسلامية حكومات وشعوباً.
هذا والكلام طويل يحتاج إلى مجال أوسع وتفصيل أكثر وبعد ذلك ما الفائدة في بث هذه الآلام والمآسي؟ فهل يحصل تغيير في الأنظمة الحكومية والقوانين المستوردة عندهم؟ لا أظن ذلك!!
(والوفاء بالنذر تعريضاً للمغفرة) وفي نسخة: (بالنذور) النذر هو المعاهدة مع الله تعالى على فعل من الأفعال، فالوفاء بالنذر يعتبر وفاء بالمعاهدة كما قال تعالى: (ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجراً عظيماً) والإنسان يجعل نفسه في معرض المغفرة عن طريق النذر والوفاء بالنذر.
(وتوفية المكاييل والموازين تغييراً للبخس) أوجب الله تعالى على البائع والمشتري أن يراعيا حقوق الناس، وأن لا يبخسا الناس أشياءهم، وأن يعاملا الناس بالأمانة والعدالة، لا بالظلم والخيانة وذلك بعدم التلاعب في المكيال الذي يكال به الشيء من طعام وغيره أو الميزان الذي يوزن به الشيء.
(والنهي عن شرب الخمر تنزيهاً عن الرجس) وفي نسخة: (والانتهاء عن شرب الخمور) لقد ذكرنا حول آية التطهير معاني عديدة للرجس، والخمر تعتبر من أفراد الرجس ومصاديقه كما قال تعالى: (إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون) وقد كتب الكثير من المسلمين وغيرهم كتباً ومقالات حول أضرار الخمر، والجرائم المتولدة منها، والويلات التي تتكون منها، ونكتفي - هنا - أن نقول: بعد مراجعة معاني الرجس يتضح لك جانب كبير من مضار الخمرة من الناحية الصحية والعقلية والاجتماعية وغير ذلك.
(واجتناب القذف حجاباً عن اللعنة) وفي نسخة: (واجتناب قذف المحصنات) إن الإسلام هو الدين الذي يحافظ على كرامات الناس، ويعتبر الإسلام المس بالكرامة نوعاً من أنواع الجريمة، وقد جعل لهذه الجريمة عقوبة دنيوية، وعذاباً في الآخرة.
إن إسناد الفجور إلى أهل العفة والشرف من رجال أو نساء ليس بالشيء الهين ولا يسمح الإسلام أن يطلق الإنسان لسانه لهدر كرامة الناس، وهتك أعراضهم ونواميسهم.
وإذا نسب الإنسان نوعاً من أنواع الفجور إلى ما ليس معروفاً بالفجور فلا بد من إثبات ذلك بإقامة البينة والشهود، فإن عجز عن ذلك فسوف ينفذ في حقه قانون العقوبات، قال الله تعالى: (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً وأولئك هم الفاسقون إلاّ الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم)(34).
وقال أيضاً: (إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لُعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم)(35)، وهنا يتضح معنى كلامها (عليها السلام): (واجتناب القذف حجاباً عن اللعنة) أي الذي يجتنب قذف الناس أي إسناد الفجور إليهم فهو محجوب عن اللعنة ومعنى اللعنة: البعد عن رحمة الله تعالى.
(وترك السرقة إيجاباً للعفة) وفي نسخة: (ومجانبة السرقة) إن اليد تعتبر ثمينة غالية ما دامت أمينة عفيفة، فإذا سرقت فقد خانت فصارت رخيصة لا كرامة لها، لأنها تجاوزت الحدود.
سأل أبو العلاء المعري من السيد المرتضى علم الهدى (رضوان الله عليه):
يدٌ بخمـــس مــــئينٍ عسجد أوديت ما بالــــــها قطــعت في ربع دينار؟
أي أن اليد التي ديتُها خمسمائة دينار ذهب، لماذا تقطع إذا سرقت شيئاً قيمته ربع دينار؟ فأجابه السيد المرتضى قائلاً:
عز الأمـــــانة أغـــلاها، وأرخصها ذل الخـــــيانة، فافهم حكمة الباري
إذن فالسرقة تسلب العفة من اليد، أي صاحب اليد، وترك السرقة يوجب بقاء العفة والأمانة.
وفي كتاب (كشف الغمة) بعد قوله: (ومجانبة السرقة إيجاباً للعفة) هكذا: (والتنزّه عن أكل أموال الأيتام والاستئثار بفيئهم إجازة من الظلم. والعدل في الأحكام إيناساً للرعية) اليتيم هو الذي فقد أحد أبويه أو كليهما وهو صغير، ويرثهما التركة، ونظراً لصغر سنه لا يستطيع المحافظة على أمواله وتدبير أموره، وهنا يطمع في أمواله ذوو الأطماع لأنهم استضعفوه، ولم يجدوا فيه القوة والقدرة على المقاومة، فهناك الظلم الواضح والاعتداء البغيض، ولكن الله تعالى قد قدّر مصير هؤلاء الظالمين وجزاءهم في الآخرة، فقال تعالى: (الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً وسيصلون سعيراً) فجعل الله الاجتناب عن أكل أموال اليتامى حفظاً من الوقوع في الظلم الذي هذا جزاؤه وعقابه.
وأما جملة: (والاستئثار بفيئهم) فالمقصود من الفيء - هنا -: الغنيمة، أي خمس الغنائم أو ما أفاء الله على رسوله، وقد تقدم الكلام حول ذلك في مدخل الخطبة والآيات الواردة حول فدك.
(وعدل الحكام إيناساً للرعية) لقد تقدم في كلامها (عليها السلام) شيء حول العدل بصورة عامة كالعدل بين الزوجات وبين الأولاد وبين الناس، وهنا تشير في كلامها إلى عدل الحكام، والمقصود من الحكام - هنا - السلطة الحاكمة من الملك إلى الوزراء إلى الأمراء إلى رؤساء الدوائر والمحافظين والقضاة والحاكمين، وأمثالهم من ذوي السلطة والقدرة.
ومن الطبيعي: أن أصحاب المناصب الخطيرة يشعرون أو يتصورون بهالةٍ من الكبرياء تحيط بهم، وعلى هذا الأساس يرون أنفسهم أجل قدراً وأعظم شأناً وأرفع مستوى من غيرهم.
وأفراد الرعية يشعرون بشيء من البعد الواسع والبون الشاسع بينهم وبين الطبقة الحاكمة، فلا يسمح لكل أحد أن يلتقي برئيس الدولة، أو يقابل موظفاً كبيراً، وخاصة إذا كان صاحب حاجة. وعلى الأخص إذا اعتدى عليه بعض الموظفين، وهذا يسبب التنافر بين الحكومة وبين الشعب، وبين جهاز الحكومة والمواطنين.
ولكن إذا سار الحكام على طريقة العدالة والمحافظة على حقوق الضعفاء تجد أن روح الأمل قد تولدت في نفس المظلوم، بل في نفوس أفراد الرعية، وينظر الإنسان من أفراد الشعب إلى جهاز الحكم كما ينظر الولد إلى أبيه، وكما ينظر الطالب إلى المعلم، وكما ينظر المريض إلى الطبيب والممرض من حيث المحبة والتقدير، وبهذا يحصل الاستئناس بين أفراد الشعب وبين الطبقة الحاكمة، ويحصل التعاون والإخاء والألفة والمحبة وهكذا وهلم جرّاً.
ولولا رعاية أسلوب الكتاب لطال بنا الكلام حول هذا الموضوع الذي يشعر به أكثر الناس، وتتلهف إليه النفوس.
(وحرّم الشرك إخلاصاً له بالربوبية) لأن الشرك نوع من الكفر، والواجب على العباد أن يعبدوا الله مخلصين له الدين.
ثم أنها ختمت هذا الفصل من كلامها بآيات مناسبة للموضوع، وهي قوله تعالى: (فاتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلاّ وأنتم مسلمون) وأطيعوا الله فيما أمركم به ونهاكم عنه فإنه (إنما يخشى الله من عباده العلماء).
1 - منصوبون لأوامره ونواهيه.
2 - أمناء: جمع أمين.
3 - البلغاء - جمع بليغ، والمقصود - هنا - المبلغ.
4 - الساطع: المرتفع.
5 - اللامع: المضيء.
6 - البصائر: جمع بصيرة، والمراد - هنا -: الحجج والبراهين. والسرائر: جمع سريرة، والمقصود - هنا -: الأسرار الخفية واللطائف الدقيقة.
7 - متجلية: منكشفة.
8 - الغبطة: أن تتمنى مثل حال المغبوط إذا كان بحالة حسنة.
9 - العزائم - جمع عزيمة -: الفريضة التي افترضها الله.
10 - الجالية: الواضحة.
11 - المندوبة: المدعو إليها.
12 - المكتوبة - هنا -: الواجبة.
13 - التنسيق: التنظيم.
14 - منماة - على وزن مسجاة -: اسم آلة النموّ، ولعلها مصدر ميمي للنموّ.
15 - حقناً: حفظاً.
16 - تعريضاً: إذا جعلته في عرضة الشيء.
17 - المكاييل - جمع مكيال: وهو ما يكال به. والموازين: جمع ميزان. والبخس: النقص.
18 - سورة التغابن: آية 8.
19 - سورة ص: آية 26.
20 - سورة العنكبوت: آية 29.
21 - سورة الفرقان: آية 53.
22 - سورة الأنبياء: آية 73.
23 - سورة البقرة: آية 124.
24 - سورة الفرقان: آية 74.
25 - سورة طه: آية 29.
26 - سورة العنكبوت: آية 8.
27 - سورة البقرة: آية 215.
28 - سورة النساء: آية 36.
29 - سورة الأنعام: آية 151.
30 - سورة الإسراء: الآيتان 23 و24.
31 - سورة لقمان: الآيتان 14 و15.
32 - سورة الأحقاف: الآيتان 15 و16.
33 - سورة البقرة: آية 179.
34 - سورة النور: آية 5.
35 - سورة النور: آية 23.

(3)
فاطِمَة الزّهْرَاء (عليها السلام) تطالب بحقها المغصوب
لما أنهت السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) حديثها عن فلسفة الإسلام، وعن علل الشريعة الإسلامية، عرّجت على كلامها المقصود وهدفها المنشود، وهو المطالبة بحقها والتظلم من السلطة الحاكمة، وقبل كل شيء وجّهت الخطاب إلى الشعب الحاضر في المسجد، في المؤتمر الإسلامي لأنهم بايعوا رئيس الدولة، ولم توجّه الخطاب إلى رئيس الدولة لأنه هو أحد طرفي المحاكمة، وهو المقصود بالمخاصمة والإدانة، ولهذا عرّفت نفسها للحاضرين كما هي الأصول المتبعة في المحاكمات ولأنها الطرف الآخر للمحاكمة، ولأنها تمثّل آل رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعترته الطيبين بل هي ملكة الإسلام، والمحاكمة وقعت بمحضر من المهاجرين والأنصار وغيرهم، وهم يومذاك من الشخصيات الإسلامية البارزة المرموقة ومن الوزن الثقيل.
وموضوع المحاكمة هي الأراضي والمقاطعات التي كانت تحت تصرّف السيدة فاطمة الزهراء منذ سنوات، ثم استولى عليها رئيس الدولة وصادرها بدون مبرر شرعي، ولهذا وجّهت السيدة فاطمة الزهراء كلامها إلى الحاضرين في ذلك المؤتمر، فقالت:
أيّها الناس!
اعلموا أني فاطمةّ!
وأبي محمد
أقول عَوداً وبدءاً(1).
ولا أقول ما أقول غلطاً، ولا أفعل ما أفعل شططاً(2).
(لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنّتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم)(3).
فإن تعزوه وتعرفوه تجدوه أبي دون نسائكم(4).
وأخا ابن عمّي دون رجالكم.
ولنعم المعزِيُّ إليه(5) (صلى الله عليه وآله).
فبلّغ بالرسالة، صادعاً بالنذارة(6).
مائلاً عن مدرجة المشركين(7).
ضارباً ثَبجهم(8)، آخذاً بأكظامهم(9).
داعياً إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة.
يكسر الأصنام.
وينكت الهام(10).
حتى انهزم الجمع وولّوا الدبر.
حتى تفرّى الليل عن صبحه(11).
وأسفر الحق عن محضه(12).
ونطق زعيم الدين.
وخرست شقاشق الشياطين(13).
وطاح وشيظ النفاق(14).
وانحلت عُقد الكفر والشقاق(15).
وفُهتم بكلمة الإخلاص(16).
ونفرٌ من البيض الخِماص(17).
وكنتم على شفا حفرة من النار(18).
مذقة الشارب(19)، ونهزة الطامع(20).
وقبسة العجلان(21).
وموطئ الأقدام.
تشربون الطرق(22)، وتقتاتون القِدَّ والورق(23).
أذلّةً خاسئين.
تخافون أن يتخطفكم الناس من حولكم.
فأنقذكم الله تعالى بمحمد (صلى الله عليه وآله).
بعد اللتيّا والتي.
وبعد أن مُني بِبُهم الرجال(24).
وذُؤبان العرب
ومَرَدَة أهل الكتاب(25).
كلّما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله.
أو نَجَم(26) قرن للشيطان.
أو فَغرتْ(27) فاغرة من المشركين.
قَذف أخاه في لهواتها(28).
فلا ينكفئ حتى يطأ صِماخها بأخمصه(29).
ويخمد لهبها بسيفه(30).
مكدوداً في ذات الله(31).
مجتهداً في أمر الله.
قريباً من رسول الله.
سيداً في أولياء الله.
مُشمّراً ناصحاً، مجدّاً كادحاً(32).
وأنتم في رفاهية من العيش(33).
وادعون فاكهون آمنون(34).
تتربصون بنا الدوائر(35).
وتتوكفون الأخبار(36).
وتنكصون عند النزال(37).
وتفرّون من القتال.
شرحها
(أيها الناس اعلموا إني فاطمة) ذكرت اسمها للمستمعين، ذلك الاسم الذي لا يجهله أحد، ذلك الاسم الذي سمعه الناس مراراً وتكراراً من فم الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) مشفوعاً بالعواطف النبوية، مقروناً بكل تجليل وتعظيم وتقدير.
(وأبي محمد صلى الله عليه وآله) وهذا النسب الشريف الأرفع، النسب الذي ليس فوقه نسب، النسب الذي هو مفخرة الكون، ودرّة تاج الوجود، وأشهر من الشمس.
نعم، إن فاطمة هي بنت محمد، سيد الأنبياء، أشرف الخلائق، أطهر الكائنات، أفضل المخلوقين.
نعم، بنت هذا العظيم تتكلم وتخطب. وتحتج وتتظلم.
لقد عرّفت نفسها لئلا يقول قائل: ما عرفناها، ولماذا ما صرّحت باسمها؟ ولماذا لم تعرّف شخصها؟ ولماذا لم تذكر نسبها؟
وبهذا أتمّت الحجة، ولم تُبق لذي مقال مقالاً، ذكرت اسمها الصريح ونسبها الواضح تعريضاً وتوبيخاً لهم.
نعم، إن فاطمة بنت محمد (صلى الله عليه وآله) جاءت تطالب بحقوقها وأموالها التي صودرت وغصبت منها.
(أقول عوداً وبدءاً) أي أتكلم آخراً وأولاً، وأولاً وآخراً، وأنا على يقين بما أقول وفي نسخة: (عَوداً على بدء) والمعنى واحد
(ولا أقول ما أقول غلطاً) وهو الخطأ في الكلام من كذب وخديعة ومغالطة.
(ولا أفعل ما أفعل شططاً) لا أتكلم جوراً وظلماً وتجاوزاً عن الحد.
(لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم) افتتحت هذا البحث بذكر أبيها الرسول (صلى الله عليه وآله) وأدمجت كلامها بكلام الله تعالى، حيث يقول: إن الرسول من العرب، يشق ويعزّ عليه وقوعكم في الشدّة لأجله، حريص على توفير وسائل السعادة لكم، بالمؤمنين من هذه الأمة رؤوف رحيم، كلمتان مترادفتان، معناهما العطف واللطف والحنان.
(فإن تعزوه وتعرفوه) أي تنسبوه، وتقولوا فيه إنه أبو مَن؟ وأخو مَن؟ وفي نسخة: (فإن تعزروه وتوقروه) أي تعظموه.
(تجدوه أبي دون نسائكم) نعم، أنا ابنته الوحيدة، وهو أبي، ولا تشاركني نساؤكم في هذا النسب الطاهر الأعلى.
(وأخا ابن عمي دون رجالكم) نعم، إنه أخو زوجي، ولم يشارك أحد من رجالكم أبي في الأخوة ة وليس المقصود - هنا - أخوّة النسب، بل الأخوّة التي حصلت يوم المؤاخاة حينما آخى رسول الله (صلى الله عليه وآله) بين أصحابه، آخى بينه وبين عليّ وكان الرسول ينوّه بهذه الأخوة في شتى المناسبات ومختلف المجالات، ويركّز على كلمة: (أخي) كقوله (صلى الله عليه وآله): ادعوا لي أخي، وأين أخي؟ وأنت أخي، وإنه أخي في الدنيا والآخرة.
وكان عليّ (عليه السلام) يعتزّ بهذه الأخوة والمؤاخاة، ويذكرها نظماً ونثراً، ومنه قوله (عليه السلام):
أنا أخــــــو المصطفى لا شك في نسبي معه ربيت، وسبـــــــطاه هــــــما ولدي
وقوله: محـــــــمد النبي أخي وصنــوي وحمـــــــزة ســـــــيد الشــهــــداء عمي
وقوله: ومَن حــــين آخى بـين من كان حاضراً دعاني وآخاني وبيّن من فضلي
وقوله: أنا عبد الله وأخو رسول الله، وأنا الصدّيق الأكبر والفاروق الأعظم لا يقوله غيري إلاّ كذاب(38).
(ولنعم المعزّي إليه صلى الله عليه وآله) نِعم المنسوب إليه والمنتمي إليه، أنه أشرف من ينتسب إليه، وأطهر من ينتمي إليه، لأنه علة الإيجاد، وبيُمنه رُزق الورى.
(فبلّغ الرسالة صادعاً بالنذارة) بلّغ الرسول كل ما أُمر بتبليغه مظهراً بالإنذار والتخويف بعذاب الآخرة.
(مائلاً عن مدرجة المشركين) وفي نسخة: (ناكباً عن سنن مدرجة المشركين) أي عدل عن طريقة المشركين ومسلكهم.
(ضارباً ثبجهم) أي كان الرسول ضارباً كواهل المشركين وظهورهم، والمقصود جهاد الكفار والمشركين.
(آخذاً بأكظامهم) أي ممسكاً على أفواههم، أو مخارج أنفاسهم، وهي كناية عن إيقافهم عند حدّهم، وإحباط مؤامراتهم، وتفنيد أباطيلهم.
(داعياً إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة).
كان يدعو إلى الله، لا إلى الدنيا، إلى سبيل ربه، لا سبيل غيره، ويراعي في دعوته مستويات الناس، فيدعو بالحكمة وهي المقالة الموضحة للحق والمزيحة للشبهة، هذا بالنسبة للطبقة الواعية المثقفة، ويدعو بالموعظة الحسنة وهي الخطابات المقنعة للنفوس، والعبر النافعة للحياة، وهذا بالنسبة للطبقة العامة.
ويجادلهم بالتي هي أحسن، وهي أحسن طرق المجادلة والتفاهم، وإقامة الأدلة والبراهين بالنسبة للمعاندين.
(ويكسر الأصنام) التي كان المشركون يعبدونها ويعتبرونها آلهة من دون الله (وينكت الهام) وفي نسخة: (ينكس الهام) إشارة إلى قتال رؤساء الكفر وأقطاب الشرك وقمعهم وإذلالهم، وهم الذين كانوا يؤججون نيران الحروب، ويثيرون الفتن أمثال: شيبة وعتبة وأبي جهل ونظرائهم، أو إذلال المفسدين والمشاغبين، وفي نسخة: (ينكث الهام) أي يلقي الرجل على رأسه.
(حتى انهزم الجمع وولّوا الدبر) أي استمر الكفاح والجهاد سنوات عديدة، تتكون خلالها الحروب والغزوات والاضطرابات حتى قضى الرسول على أصول الفتن وجراثيم الفساد فانكسرت شوكة الكفار، وضعفت معنوياتهم، وأخيراً حتى انهزم الجمع، أي جماعة الكفار وأدبروا فارّين.
(حتى تفرّى الليل عن صبحه) حتى انجلت ظلمات الكفر السوداء، وتجلى صبح الإسلام الأبيض الناصع.
(وأسفر الحق عن محضه) أي ارتفعت الحواجز الباطلة التي حجبت الحق عن الظهور فأضاء الحق الخالص الذي لا يشوبه شيء من الباطل، وكلها كنايات عن تجمّع القوى الدينية.
(ونطق زعيم الدين) تكلم رئيس الدين فيما يتعلق بأمور الدين وأمور المسلمين بكل حرية وصراحة.
(وخرست شقاشق الشياطين) قد ذكرنا في شرح ألفاظ الخطبة أن الشقاشق - جمع شقشقة - شيء يشبه الرئة يخرج من فم البعير عند هيجانه، والمقصود من (خرست شقاشق الشياطين) هو تبخّر نشاطات المفسدين، واختناق أصواتهم.
(وطاح وشيظ النفاق) المقصود سقوط المنافقين عن الاعتبار، وفشل مساعيهم.
(وانحلت عُقَد الكفر والشقاق) أي فشلت المحاولات والمحالفات والاتفاقيات التي قام بها الكفار والمخالفون ضد الإسلام والمسلمين كما في غزوة الأحزاب.
(وفُهتم بكلمة الإخلاص) وتلفظتم بكلمة: (لا إله إلا الله) بألسنتكم.
(في نفر من البيض الخماص) أي بيض الوجوه من النور، الضامري البطون من التجوع بسبب الصوم. أو الزهد، ويمكن أن يكون المقصود من هذين الوصفين أُناساً معيّنين، وهم الصفوة من أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله) أو أهل البيت (عليهم السلام).
(وكنتم على شفا حفرة من النار) بسبب الكفر والشرك بالله العظيم.
ثم أشارت (عليها السلام) إلى الحياة الاجتماعية التي كان الناس يعيشونها في ذلك الوقت وهي الفوضوية واختلال النظام، والهرج الذي كان مستولياً على كافة جوانب الحياة، فقالت: (مذقة الشارب) إذا مرّ الإنسان الظمآن من مكان، ووجد ماءً ليس له مالك، أو له مالك ولكنه لا يستطيع الدفاع والمقاومة فيطمع ذلك الإنسان أن يشرب من ذلك الماء ويبرّد غليله.
(ونهزة الطامع) وهكذا إذا مر الإنسان من مكان ووجد هناك طعاماً لا مالك له، أو مالكه ضعيف فترى الجائع يطمع في ذلك الطعام، فينتهز الفرصة ويستوفي نصيبه من ذلك الطعام.
(وقبسة العجلان) هي الشعلة أو الجذوة من النار يأخذها الرجل المسرع إذا احتاج إليها.
(وموطئ الأقدام) وكنتم أذلاّء، مستضعفين تدوسكم الأقوياء بأقدامها.
(تشربون الطرق) الماء الذي كنتم تشربونه هو الماء المتجمع في المستنقعات والحفائر تدخلها الحيوانات، وتبول فيها الإبل، مع العلم أن النفوس الشريفة تستقذر هذا الماء وتمجّه، ولا ترضى به، ولكنه الجهل، ولكنه الإحساس بالنقص، والخضوع للمذلة والهوان، كأنهم لم يعرفوا حفر الآبار، أو تفجير العيون، أو إيجاد القنوات تحت الأرض ولا تسأل عن مضاعفات هذه المياه وتلوثها بأنواع الجراثيم والميكروبات.
هذا ولا تزال الحياة بهذه الصفة موجودة في بعض البلاد الإسلامية المتأخرة عن ركب الحضارة كما نقرأ ذلك في بعض الصحف والمجلات.
(وتقتاتون القدّ والورق) أي كان قوتكم وطعامكم من القد وهو اللحم أو الجلد اليابس وأوراق الأشجار، فالأراضي الواسعة الشاسعة قاحلة جرداء، لا ضرع فيها ولا زرع ومفهوم الزراعة غير موجود عندكم.
(أذّلة خاسئين) الخاسئ هو المنبوذ المطرود الذي لا يُترك أن يدنو من الناس لحقارته.
(تخافون أن يتخطفكم الناس من حولكم) إن التفسخ والانحلال يؤدي إلى اختلال الحياة الاجتماعية وإلى الفوضوية وفقدان الأمن والأمان، وسلب القرار والاستقرار والطمأنينة في النفوس، فالقوي يطمع في الضعيف، والكثير يأكل القليل، والغني يستعبد الفقير، فلا يخاف أحد من القانون، ولا يهاب العقاب، ولا يخشى السلطة.
ونحن نرى أن حوادث الاختطاف والاغتصاب والاعتداء إنما تكثر في البلاد التي لا يطبق فيها القانون على الجميع. ولا ينفذ إلا في حق الفقير الضعيف فالدماء تراق والأعراض تهتك، والأموال تسلب، والكرامات تُهدر، وهكذا وهلم جرّاً.
وقد اقتبست السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) هذه الآية من القرآن وأدمجتها في حديثها عن العهد الجاهلي.
(فأنقذكم الله بأبي محمد صلى الله عليه وآله) إنه المنقذ الأعظم والمصلح الأكبر الذي أنقذ العباد من تلك الحياة التي كانت تشبه الجحيم، وأصلح البلاد من تلك المفاسد والويلات والمصائب وأحدث انقلاباً في العقائد والنفوس والأخلاق والعادات.
ولم تتحقق أهدافه إلا (بعد اللتيّا والتي) هذه الكلمة صارت مثلاً في هذه المناسبة، أي استطاع الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) أن يطهر المجتمع، وينقذ الناس من مصائب الجاهلية بعد شق الأنفس، بعد أن تحمّل المشاكل وأنواع الأذى، بعد الضغط والكبت والاضطهاد.
(وبعد أن مُني بِبُهم الرجال) استطاع الرسول (صلى الله عليه وآله) إنقاذ الناس بعد أن ابتلي بالرجال الأقوياء، والأبطال الشجعان الذين أججوا نيران الحروب، وحاربوا رسول الله (صلى الله عليه وآله) بكل ما يملكون من حول وقوة وهم أكثر عدداً من المسلمين، وأكثر عدّة وعتاداً.
(وذُؤبان العرب) إن الإنسان إذا تجرّد عن الإنسانية والأخلاق والفضيلة ينزل إلى مرتبة الحيوانات، فإذا فقد الفهم والعلم فإنه يُشبَّه بالحمار، وإذا فقد العاطفة والرأفة فإنه يُشبَّه بالسباع والحيوانات المفترسة، فيصح أن يقال في حقه: إنه ذئب.
وهكذا أولئك السفاكون الذين كانوا يستأنسون بالمذابح والمجازر التي كانوا هم السبب في تكوينها، أولئك الذين كانت هواياتهم إثارة الفتن وإيجاد الاضطرابات، أمثال أبي جهل وأبي سفيان ومن يدور في فلكهما، وقيل: المقصود من الذؤبان - هنا - اللصوص والصعاليك، أي السفلة من الناس الساقطين.
ابتلي الرسول (صلى الله عليه وآله) بهؤلاء المفسدين، بدءً من غزوة بدر إلى غزوة أحد إلى الخندق إلى حنين وغيرها، تجد هؤلاء المفسدين كانوا في طليعة أسباب الفتنة والاضطرابات والمشاغبات، وحتى الحروب التي خاضها المسلمون مع اليهود كان هؤلاء هم السبب في إثارتها.
(ومردة أهل الكتاب) إشارة إلى الحروب التي شبّ اليهود والنصارى نيرانها، أمثال: بني النضير، وبني قريظة وبني قينقاع، وبني الأصفر في مؤتة.
إن أهل الكتاب وهم اليهود والنصارى لو كانوا يتبعون الكتاب السماوي الذي أنزل عليهم لما حاربوا الرسول؛ بل كانوا يسلمون على يديه في المرحلة الأولى، لأن أوصاف الرسول (صلى الله عليه وآله) مذكورة في كتبهم، وكان من السهل عليهم المقارنة بين تلك الصفات والعلائم وبين الرسول، وعند ذلك كانوا يجدون تلك الصفات تنطبق على الرسول مائة بالمائة، ولكن مردة أهل الكتاب وهم العتاة المتجبرون الذين منعهم الكبرياء من الخضوع للحق استمروا على عتّوهم وعنادهم وجحودهم.
(كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله) كانوا يحيكون المؤامرات ضد الرسول (صلى الله عليه وآله) ويجمعون الجيوش والعساكر ويحضّون القبائل والعشائر على محاربة الرسول، فكانت المساعي فاشلة، وكان الانتصار والغلبة والظفر حليفاً للرسول.
ولو استعرضنا تاريخ حياة الرسول (صلى الله عليه وآله) منذ البعثة حتى الوفاة لظهر لنا جانب كبير من إحباط المؤامرات والفشل الذريع الذي أحاط بأعداء الرسول.
(أو نَجَم قرن للشيطان) لو انكسر قرن الحيوان نبت له قرن آخر، وتقول السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام): إذا نهض أحد المفسدين للقيام بالأعمال الشيطانية، فتعتبر السيدة الزهراء تلك المعاكسات والمقاومات التي كانت المشركون يقومون بها أعمالاً شيطانية، أي ضارة ومضلة فهي تعطف هذه الجملة على جملة: (كلما أوقدوا) أي كلما نجم قرن للشيطان أو (فغرت فاغرة) أو فتحت حية الكفر فمها لتلسع وتلدغ المجتمع الإسلامي.
(قذف أخاه في لهواتها) أي كان الرسول يقضي على تلك النشاطات الجهنمية، والنعرات الشيطانية يقضي عليها بأخيه عليّ بن أبي طالب (عليه السلام).
كان الرسول يأمر عليهاً أن يردّ عنه كتائب المشركين وعصابات المنافقين فكان عليّ (عليه السلام) يخاطر بحياته، ويغامر بنفسه، ويستقبل أولئك الذئاب المفترسة، كان يقاتلهم وحده، ويخوض غمار الحرب، فيصح التعبير بقولها: (قذف أخاه في لهواتها) في فم الموت بين أنياب السباع تحت سيوف الأعداء، والرماح الشارعة والسهام الجارحة.
(فلا ينكفئ حتى يطأ صماخها بأخمصه) لا يرجع عليّ (عليه السلام) من جبهة القتال حتى يسحق رؤوس الأعداء، ويدوس هامات الرؤساء بباطن قدمه، كالمصارع الذي ينزل إلى ساحة المصارعة فإذا تغلّب على خصمه وصرعه فلا بدّ من أن يلصق المصارع ظهر خصمه أو رأسه على الأرض ليثبت أنه أنهى المصارعة بأوفى صورة.
كذلك عليّ (عليه السلام) كان يهرول نحو الأعداء لا يعرف معنى الخوف، وكأنه مستميت، وكأنّ غريزة الحياة قد سُلبت عنه، وبيده صحيفة يقطر منها الموت، تراها راكعة ساجدة، على الرؤوس، والخواصر وكان يقدّ الأبدان نصفين طولاً أو عرضاً، ويفري ويكسر ويهشم في طرفة عين، وقبل أن تنفجر الدماء من العروق كانت العملية قد انتهت.
(ويخمد لهبها بسيفه) كان يقضي على جراثيم الفساد، ويقلع الأشواك عن طريق المجتمع البشري، ويطفئ لهيب الحروب بسيفه السماوي، ويمهّد الطريق لكلمة: (لا إله إلا الله محمد رسول الله).
(مكدوداً في ذات الله) قد أخذ التعب والعناء منه كل مأخذ، كل ذلك لله وفي الله ولوجه الله وفي سبيل الله.
(مجتهداً في أمر الله) المجتهد - في اللغة - الذي يجهد نفسه أي يتعبها، كان عليّ (عليه السلام) يبذل ما في وسعه وطاقته وجميع إمكانياته لتحقيق أهدافه السامية، وتحصيل أمنياته، وهي إعلاء كلمة الله.
(قريباً من رسول الله) ليس المقصود القرب المكاني، بل القرب المعنوي، من حيث قرابة النسب، وانسجام الروح، واندماج النفس واتحاد الاتجاه، ووحدة النفس، فعليّ (عليه السلام) نفس الرسول (صلى الله عليه وآله) بنص القرآن الكريم بقوله تعالى: (وأنفسنا وأنفسكم) وهل هناك قرابة أو نسب أقوى من هذا؟
(سيداً في أولياء الله) وفي نسخة: (سيد أولياء الله) فيكون المقصود هو رسول الله (صلى الله عليه وآله).
(مشمّراً ناصحاً، مجدّاً كادحاً) هكذا تصف السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) زوجها العظيم، كأنه يشمّر عن ثيابه نشاطاً واستعداداً للعمل للإسلام ولصالح الإسلام، في سبيل إسعاد المسلمين. وبذل النصح، وهو حب الخير لهم، كان مجداً في العمل، ساعياً فيه، لا يمنعه التعب عن استمرار العمل.
نعم، كانت حياة الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) كلها جهوداً وجهاداً، ونشاطاً وإنتاجاً وإنجازاً وخدمة للإسلام والمسلمين، فمواقفه في جبهات القتال مشهورة، وأعماله الفدائية في سبيل الإسلام مذكورة، وتفانيه وتضحياته في سبيل الله معروفة.
(وأنتم في رفاهية من العيش وادعون فاكهون آمنون) كان عليّ (عليه السلام) يستقبل الأخطار والأهوال في الوقت الذي كان المسلمون بعيدين عن تلك الأخطار، مشغولين بأنفسهم يتمتعون بالراحة، ويتفكرون في تحصيل الملذات، وإشباع الرغبات، لا يعرفون معنى الخوف.
أين كان المسلمون ليلة المبيت؟ تلك الليلة التي طوّق المشركون دار رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهم يريدون الهجوم عليه ليقتلوه؟
أما بات عليّ (عليه السلام) على فراش رسول الله (صلى الله عليه وآله) يفديه بنفسه وحياته وشبابه.
أين كان المسلمون يوم أحد حين انهزموا وتركوا الرسول في جبهة القتال، تحمل عليه عصابات الكفر والمشركين؟ وبقي عليّ (عليه السلام) يقاوم الأعداء حتى ضرب الرقم القياسي في المواساة والتضحية، حتى هتف جبرئيل بفُتَّوته وبسالته يوم هتف بين الأرض والسماء: لا فتى إلا عليّ ولا سيف إلا ذو الفقار.
وهكذا يوم حُنين، وهكذا يوم الخندق، وهكذا يوم خيبر. وهكذا هلم جراً.
قال عليّ (عليه السلام): (ولقد واسيته بنفسي في المواطن التي تزل فيها الأقدام، وتنكص فيها الأبطال، نجدة أكرمني الله بها..).
(تتربصون بنا الدوائر) كان بعض أولئك الأفراد مندسين في صفوف المسلمين يتوقعون هلاك الرسول، وينتظرون نزول المكاره وحلول الكوارث، برسول الله، والدوائر وصروف الزمان، والعواقب السيئة، وتحوّل النعمة وزوالها ونزول البلاء.
(وتتوكفون الأخبار) تتوقعون وصول الأخبار الدالة على هلاكنا.
(وتنكصون عند النزال، وتفرون من القتال) ففي يوم أُحد كانت المأساة من فرار المسلمين، ويوم حُنين كانت الفضيحة ويوم خيبر كان العار منطبعاً على جبهات المنهزمين، ولا تسأل عن يوم الخندق حين استولى الرعب على القلوب، والفزع على النفوس حينما برز عمرو بن عبد ودّ، فكفى الله المؤمنين القتال بعلي (عليه السلام).
هذا ولو أردنا استعراض الأحداث التاريخية بهذا الشأن لطال بنا الكلام وخرج الكتاب عن أسلوبه.
وخلاصة القول هذا موقف عليّ (عليه السلام) تجاه الإسلام والرسول، وهذه مواقف غيره من أولئك الشخصيات التي ظهرت شجاعتهم بعد وفاة الرسول! وبرزت مواهبهم حين خلا لهم الجو، وساعدتهم الظروف على ما يحبون!
1 - عوداً وبدءاً: آخراً وأولاً.
2 - شططاً: ظلماً وجوراً.
3 - سورة التوبة: آية 129
4 - تعزوه: تنسبوه.
5 - المعزي إليه: المنسوب إليه.
6 - صادعاً: مُظهراً. النذارة: الإنذار والتخويف.
7 - مدرجة المشركين: طريقهم ومسلكهم.
8 - الثبج - بفتح الثاء والباء -: الكاهل، ووسط الشيء.
9 - الكظم: - بفتح الكاف والظاء -: الفم أو الحلق أو مخرج النفس.
10 - نكته على هامته: إذا ألقاه على رأسه.
11 - تفرّى: انشقّ.
12 - أسفر: إذا انكشف وأضاء. والمحض: الخالص.
13 - شقاشق - جمع شقشقة - وهي شيء يشبه الرئة يخرج من فم البعير إذا هاج.
14 - الوشيظ: الأتباع والخدم.
15 - الشقاق: الخلاف.
16 - فُهتم: تلفظتم.
17 - البيض - جمع أبيض - والخماص - جمع خميص - وهو الجائع. وفي نسخة: (في نفرٍ).
18 - شفا حفرة: جانبها المشرف عليها.
19 - المُذقة - بضم الميم - شربة من اللبن الممزوج بالماء.
20 - النُهزة - بضم النون -: الفرصة.
21 - قبسة العجلان: الشعلة من النار التي يأخذها الرجل العاجل.
22 - الطرق - بفتح الطاء وسكون الراء -: الماء الذي خوضته الإبل، وبوّلت فيه.
23 - تقتاتون: تجعلون قوتكم. القد - بكسر القاف -: قطعة جلد غير مدبوغ، ويحتمل أن يكون بمعنى القديد وهو اللحم المجفف في الشمس.
24 - مني - فعل ماضي مجهول -: ابتلي. والبهم - على وزن الغرف - جمع بهمة، وهو الشجاع الذي لا يهتدي من أين يؤتى.
25 - مردة - بفتح الميم والراء والدال -: جمع مارد وهو العاتي.
26 - نجم - فعل ماضي -: طلع. وقرن الشيطان: اتباعه.
27 - فغر: فتح. فاغرة فاها: أي فاتحة فمها.
28 - اللهوات - جمع لهاة -: لحمة مشرفة على الحلق في أقصى الفم.
29 - ينكفئ: يرجع يطأ: يدوس. ضماخها: أذنها. بأخمصه: بباطن قدمه.
30 - يخمد: يطفئ. لهبها: اشتعالها.
31 - المكدود: المتعب.
32 - شمّر ثوبه: رفعه. مجد - بضم الميم وكسر الجيم -: مجتهد. والكادح: الساعي.
33 - رفاهية: سعة.
34 - وادعون: مرتاحون. فاكهون: ناعمون.
35 - الدوائر: العواقب المذمومة وحوادث الأيام.
36 - تتوكفون: تتوقعون بلوغ الأخبار.
37 - تنكصون: ترجعون وتتأخرون. والنزال: القتال.
38 - راجع كتابنا (علي من المهد إلى اللحد) لمزيد من المعلومات حول البحث.

(4)
التَحَدث عَنْ فَتْرة الانقلاَب
ثم انتقلت للتحدث عن فترة الانقلاب الذي قام به الأفراد بعد وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله) فقالت:
فلّما اختار الله لنبيّه (صلى الله عليه وآله) دار أنبيائه.
ومأوى أصفيائه.
ظهر فيكم حسكة النفاق(1)
وسمل جلباب الدين(2)
ونطق كاظم الغاوين(3)
ونَبَغَ خامل الأقلِّين(4)
وهدَرَ فنيق المبطلين(5)
فخطر في عرصاتكم(6)
وأطلع الشيطان رأسه من مغرزه(7).
هاتفاً بكم
فألفاكم لدعوته مستجيبين
وللغرّة فيه ملاحظين(8).
ثم استنهضكم فوجدكم خفافاً
وأحمشكم فألفاكم غضابا(9)
فوستمتم غير إبلكم(10)
وأوردتم غير شربكم(11)
هذا والعهد قريب
والكلم رحيب(12)
والجرح لمّا يندمل(13)
والرسول لمّا يُقبَر(14)
ابتداراً زعمتم خوف الفتنة(15)
(ألا في الفتنة سقطوا وإن جهنَّم لمحيطة بالكافرين)
فهيهات منكم!
وكيف بكم؟
وأنَّى تؤفكون(16)
وكتاب الله بين أظهركم
أُموره ظاهرة
وأحكامه زاهرة
وأعلامه باهرة
وزواجره لائحة
وأوامره واضحة
وقد خلَّفتموه وراء ظهوركم
أرَغبةً عنه تريدون؟
أم بغيره تحكمون؟
بئس للظالمين بدلاً
(ومَن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين)
ثم لم تلبثوا إلاّ ريث أن تسكن نفرتها(17)
ويسلس قيادها(18)
ثم أخذتم تورون وقدتها، وتُهيّجون جمرتها(19)
وتستجيبون لهتاف الشيطان الغويّ
وإطفاء أنوار الدين الجلي
وإخماد سنن النبي الصفي
تسرّون حسواً في ارتغاء(20)
وتمشون لأهله ووُلده في الخَمَر والضرَّاء(21)
ونصبر منكم على مثل حزّ المدى(22)
ووخز السنان في الحشى(23)
وأنتم - الآن - تزعمون أن لا إرث لنا
(أفحكم الجاهلية يبغون؟
ومَن أحسنُ من الله حكماً لقوم يوقنون؟)
أفلا تعلمون؟ بلى تجلّى لكم كالشمس الضاحية أني ابنته.
أيها المسلمون! أأُغلب على إرثيه.
شرحها
(فلما اختار الله لنبيه (صلى الله عليه وآله) دار أنبيائه) ما أروع هذه الكلمة! وما أحسن هذا التعبير الراقي إذ أنها ما قالت: فلما مات النبي. بل قالت: (فلما اختار الله لنبيه دار أنبيائه) وهي الدرجات العلا في الجنة، فهناك الأنبياء، وهناك (مأوى أصفيائه).
(ظهرت فيكم حسيكة النفاق) وفي نسخة: (حسكية) وهي الشوكة، ويراد بها العداوة وهي عداوة النفاق، أي العداوة الحاصلة بسبب النفاق.
(وسمل جلباب الدين) وفي نسخة: (أسمل) وفي بعض النسخ: (جلباب الإسلام) أي ظهرت آثار الاندراس على ثياب الإسلام، بعد أن كانت في غاية الحسن والجمال والطراوة.
(ونطق كاظم الغاوين) وفي نسخة: (فنطق كاظم، ونبغ خامل) أي تكلم الذي ما كان يتجرأ أن يتكلم من جهة الخوف.
(ونبغ خامل الأقلِّين) وفي نسخة: (الآفلين) والمقصود بروز الأفراد الساقطين غير النابهين.
(وهدر فنيق المبطلين) وفي نسخة: (فنيق الكفر) أي رفع البعير - الفحل الذي لا يركب - صوته.
(فخطر في عرصاتكم) أي مشى ذلك البعير مشية المعجب بنفسه، مشية الكبرياء والغرور وكلها كنايات عن ظهور النفاق الكامن في الصدور، وبروز النزعات والاتجاهات التي كانت مختفية في عصر الرسول (صلى الله عليه وآله) وانقلاب الضعفاء العجزة أقوياء.
(وأطلع الشيطان رأسه من مغرزه هاتفاً بكم) تعتبر السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) تلك الأحداث نوعاً من التجاوب مع الشيطان الرجيم الذي حلف بقوله: (لأغوينهم أجمعين إلاّ عبادك منهم المخلصين) فالشيطان الذي كان فاشلاً في عهد الرسول يوم كان الإسلام في التقدم والقوة، الشيطان أخرج رأسه بعد أن كان مختفياً، أخرج رأسه كالقنفذ الذي يخرج رأسه عند زوال الخوف، وهتف بكم ودعاكم إلى نقض البيعة التي تمت يوم الغدير، وسلب الحقوق عن أهلها وأصحابها الشرعيين.
(فألفاكم لدعوته مستجيبين) وفي نسخة: (فوجدكم لدعوته التي دعا إليها مجيبين) أي حينما هتف بكم الشيطان وجدكم كما يجب، وصدق عليكم ظنه.
(وللغرّة فيه ملاحظين) أي وجد الشيطان فيكم تجاوباً شديداً، وقبولاً للانخداع كالإنسان الذي يقبل كل شيء يقال له، ويعمل كل شيء يؤمر به، بلا تفكر ولا تعقّل في الأمور.
(ثم استنهضكم فوجدكم خفافاً) أمركم بالقيام به فوجدكم مسرعين دون تثاقل.
(وأحمشكم فألفاكم غضاباً) وفي نسخة: (فوجدكم غضاباً) أي حملكم على الغضب، وحرّضكم عليه فوجدكم تغضبون لغضبه، أو تندفعون نحو الغضب على حسابه ولمصلحته، والمقصود: وجدكم الشيطان منقادين لأوامره، مطيعين له في كل الأحوال.
(فوسمتم غير إبلكم) فكانت النتيجة أنكم عملتم ما لا يجوز لكم أن تفعلوه، وانتخبتم من ليس بأهل الانتخاب، وأعطيتم مقاليد الأمور غير أهلها، وخوّلتم القيادة إلى غير أكفائها.
(وأوردتم غير شربكم) وفي نسخة: (وأوردتموها شرباً ليس لكم) كالراعي الذي ينزل إبله في عين ماء ليست له، والمقصود إنكم أخذتم ما ليس لكم بحق من الخلافة، والمراد التصرفات الشاذة التي قام بها الناس في تعيين الخليفة، وصرف الخلافة عن أهلها وأصحابها الشرعيين، لأن هذه التصرفات ليست من حق الناس، بل هي من عند الله تعالى.
(هذا والعهد قريب) حَدَث كل هذا التغيير والحال أن العهد قريب، أي لم يمضِ زمن بعيد عن أيام الرسول (صلى الله عليه وآله) إذ من الممكن أن الدين يتغير، أو المسلمين ينسون الأوامر والتعاليم بسبب مرور الزمان، ولكن - هنا - ليس الأمر كذلك فإنه لم يمضِ على وفاة الرسول أسبوعان.
(والكلم رحيب) وجراحة القلب بسبب وفاة النبي (صلى الله عليه وآله) لا يزال فمها واسعاً، وهذا تعبير عن سعة الجراحة، والمقصود عِظَم المصيبة، وفظاعة الخطب.
(والجرح لما يندمل) أي لم يلتئم جرح مصاب وفاة النبي (صلى الله عليه وآله).
(والرسول لما يقبر) أي ظهرت بوادر الانقلاب قبل دفن النبي (صلى الله عليه وآله)، بل في تلك الساعات التي كان علي (عليه السلام) يغسّل الرسول (صلى الله عليه وآله) ويكفنه، فاجتمعتم وصنعتم ما صنعتم.
(ابتداراً، زعمتم خوف الفتنة) وفي نسخة: (بداراً) أي أسرعتم إلى تلك الأعمال بكل استعجال، وتزعمون أنكم إنما فعلتم ما فعلتم وقاية عن وقوع الفتنة، ومعنى زعم: ادّعى شيئاً وهو يعلم كذبه، ومعنى - زعمتم - هنا: ادّعيتم أنكم فعلتم تلك الأفعال لئلا تقع الفتنة، وكنتم تعلمون أنكم كاذبون في هذا الإدعاء.
(ألا في الفتنة سقطوا وأن جهنم لمحيطة بالكافرين) الفتنة أنتم، وأنتم الفتنة، وعملكم هو الفتنة المفسدة، غصبتم الحقوق عن أهلها لأجل الوقاية من الفتنة حسب ادعائكم، وأيّ محنة أعظم من تغيير مجرى الإسلام، وتبديل أحكامه، وغصب حقوق أهل البيت، ومعاملتهم بتلك القسوة والخشونة؟؟
وكان من المناسب أن تقول السيدة فاطمة: إلا في الفتنة سقطتم. ولكنها ذكرت الآية الشريفة كما هي.
(فهيهات منكم) كلمة: (هيهات) معناها البُعد، وكأنّها تستبعد تلك الأعمال منهم استبعاداً ممزوجاً بالتعجب من أنهم كيف أقدموا على تلك الأعمال، ومَن الذي يصدّق أن تلك الحثالة من الناس يقومون بتلك الجرائم العظيمة بالرغم من تصريح القرآن، وتصريحات الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) وتوصياته في حق عترته وأهل بيته؟
(وكيف بكم) تتعجب السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) من ذلك التبدل في العقائد والسلوك أي كيف فعلتم هذه الأعمال؟ وكيف تليق بكم تلك الجنايات.
(وأنّى تؤفكون) أي إلى أين صَرَفكم الشيطان عن طريقتكم المثلى، وحدا بكم إلى هذه الأعمال.
(وكتاب الله بين أظهركم) أي والحال أن القرآن لا يزال موجوداً فيما بينكم، محفوفاً بكم، وفي نسخة: (وكتاب الله - عز وجل - بين أظهركم، قائمة فرائضه، واضحة دلائله، نيّرة شرائعه).
(أُموره ظاهرة) أي لا يوجد في القرآن ما يوجب الشك والارتياب، لأن أموره ظاهرة.
(وأحكامه زاهرة) متلألئة مشرقة.
(وأعلامه باهرة) أي العلامات التي يستدل بها على القرآن غالبة النور والضياء.
(وزواجره لائحة) أي نواهيه التي تزجركم عن اتباع الهوى واضحة.
(وأوامره واضحة) الأوامر التي تأمركم بإطاعتنا، وتعلّم الأحكام منا، والانقياد لنا ظاهرة.
(وقد خلّفتموه وراء ظهوركم) يا للأسف! إن القرآن الموصوف بهذه الأوصاف صار اليوم منبوذاً وراء ظهوركم، لا تعملون به ولا تأخذون بقوله.
(أرَغبة عنه تريدون؟) هذا استفهام توبيخي، لأن الإنسان إذا ألقى الشيء وراءه فمعناه أنه لا يرغب إليه لهذا يدبر عنه.
تقول (عليها السلام) كأنكم رفضتم العمل بالقرآن، أو لا يعجبكم القرآن أي أحكامه التي تزاحم هواياتكم وأهدافكم.
(أم بغيره تحكمون؟) أي تحكمون بغير القرآن من القوانين؟ إذ القرآن لا يصلح للعمل عندكم؟
(بئس للظالمين بدلاً) بئس ذلك البدل الذي أخذتم به بدل القرآن، وهو الحكم الباطل.
(ثم لم تلبثوا إلاّ ريث أن تسكن نفرتها ويسلس قيادها) وهنا شبهت السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) الفتنة بالناقة أو الدابة الشاردة التي يصعب قيادها، أي الاستيلاء عليها بالركوب تقول (عليها السلام) بعد استيلائكم على المقام الأسمى الأرفع الأعلى وهو مقام الخلافة لم تلبثوا حتى استتمت لكم الأمور، وهدأ الاضطراب ثم شرعتم بالأعمال التخريبية.
(ثم أخذتم تورون وقدتها، وتهيجون جمرتها) أي شرعتم بإثارة الفتن كالذي ينفخ في الجمرة حتى تلتهب، أو يحرك الجمرة حتى تشتعل وتظهر نارها، وتحرق الرطب واليابس، والمقصود من ذلك تلك المآسي التي قام بها أولئك الأفراد من سلب الإمكانيات من أمير المؤمنين (عليه السلام) وهجومهم على الدار، وما جرى على السيدة فاطمة وزوجها وولديها، ثم مصادرة أملاكها ومنعها عن الخمس والفيء، وغير ذلك مما ذكره المؤرخون وما لم يذكروه..
وخلاصة القول: أنكم قمتم بجرائم متسلسلة ومتعددة، بعضها أفجع وأفظع من بعض.
(وتستجيبون لهتاف الشيطان الغوي) لأن الشيطان يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير، ويحدثنا القرآن الكريم عن كلام الشيطان الغوي: (وما كان لي عليكم من سلطان إلاّ أن دعوتكم فاستجبتم لي)(24) نعم إن الأعمال التي قامت بها رجال السلطة ضد آل الرسول لم تكن إجابة واستجابة لله ولرسوله، بل كانت استجابة للشيطان الغوي، وقد تقدم كلام شبيه بهذا فيما سبق.
(وإطفاء أنوار الدين الجلي) للدين الإسلامي أنوار يهتدي بها الناس، وهي محاسن الأحكام والقوانين الروحانية التي يتمتع بها الدين، ويسعون لإطفاء تلك الأنوار.
(وإخماد سنن النبي الصفي) وفي نسخة: (إهماد) أي القضاء على طريقة الرسول وهنا تشبيه السنة النبوية بالنور، وتشبيه القضاء عليه بالإخماد.
(تسرّون حسواً في ارتغاء) هذه الجملة تشير إلى قضية معروفة وهي إن اللبن حينما يُحلب تعلوه رغوة فيأتي الرجل فيُظهر أنه يريد شرب الرغوة فقط، ولكنه يشرب الماء سراً، وبهذا يضرب المثل لمن يدّعي شيئاً ويريد غيره.
فهو يشرب اللبن سراً ولكنه يدعي أنه يحسو الرغوة، فيقال: فلان يسرّ حسواً في ارتغاء. والارتغاء شرب الرغوة.
هكذا تخبر السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) عن الهدف الحقيقي لهؤلاء، أنهم يدّعون شيئاً ولكنهم يريدون شيئاً آخر، يدّعون الوقاية من وقوع الفتنة ولكنهم يريدون غلق بيت آل محمد، والقضاء على كيان أهل البيت.
(وتمشون لأهله ووُلده في السراء والضراء) وفي نسخة: (في الخَمَر والضراء) والخَمَر - بفتح الخاء والميم - هو ما يسترك من الشجر وغيره، والضراء - بفتح الضاد وتخفيف الراء -: الشجر الملتف، أو الأرض المنخفضة، والمقصود: أنكم تؤذون أهل رسول الله وأولاده بالمكر والخديعة وبصورة سرية غير مكشوفة، ولهذه الغاية قطعتم عنهم موارد الرزق ليكونوا فقراء ضعفاء مسلوبي الإمكانيات كي لا يميل إليهم أحد.
(ونصبر منكم على مثل حزّ المدى) نحن نصبر منكم على الأذى والمكاره التي تصلنا منكم كمن يصبر على تقطع أعضائه بالسكين.
(ووخز السنان في الحشى) مثل مَن طعنوه بسنان الرمح في أحشائه، أي ليست القضية سهلة حتى يمكن التغاضي عنها والتناسي، بل هي مأساة كبيرة، وجريمة عظيمة.
(وأنتم الآن تزعمون أن لا إرث لنا) وبعد هذا كله لتبرير موقفكم العدائي، وتغطية أعمالكم تزعمون أي تدّعون كذباً: أن لا إرث لنا من رسول الله (صلى الله عليه وآله) تنكرون أهم الأمور وأوضح الأشياء في الدين الإسلامي، وهو قانون الوراثة في القرآن والسنة.
(أفحكم الجاهلية يبغون) وفي نسخة: (تبغون) أدمجت السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) هذه الآية في حديثها كما هي عادتها بسبب استئناسها بتلاوة القرآن، تقول: إن إنكار الوراثة ليس في الحكم الإسلامي، فهل أعجبكم أن تحكموا بأحكام الجاهلية التي كانت تبعاً للأهواء الفردية، منبعثة عن أغراض شخصية، وهي حرمان البنات من الإرث، وتخصيص الإرث للذكور فقط.
(ومن أحسن حكماً من الله لقوم يوقنون) آية أخرى أدمجتها في حديثها، وهل يوجد حكم أو قانون أحسن من الحكم الصادر من الله تعالى عند الذين يوقنون بالله الحكيم؟ ويعتقدون بالإسلام أليس القانون الإسلامي قد قضى على قوانين الجاهلية؟ فجعل الإرث للبنات والبنين؟
(بلى، تجلّى لكم كالشمس الضاحية إني ابنته) بلى الأمر واضح عندكم كالشمس التي تظهر في ضحوة النهار، في سماء صافية لا سحاب فيها ولا ضباب، هكذا اتضح عندكم أني ابنته قطعاً وبلا شك.
(أفلا تعلمون؟) هذه الأمور وهذه الحقائق؟ أو أفلا تعلمون أني ابنته.
(أيها المسلمون) الحاضرون المستمعون إلى خطابي، يا من رشحتم أبا بكر للخلافة يا أمة محمد أنا بنت محمد، أنا ابنة رسول الإسلام.
(أأُغلب على إرثيه) يغلبونني على أخذ إرثي وحقي؟ وفي نسخة: (أأُبتزّ إرث أبيه) أيسلبونني إرث أبي؟ والهاء - هنا - للوقف والسكون.
1 - الحسكة والحسيكة: الشوكة.
2 - سمل الثوب: صار خلِقاً. والجلباب: ثوب واسع.
3 - كاظم الغاوين: الساكت الضال الجاهل.
4 - ظهر من خفي صوته واسمه من الأذلاّء.
5 - هدر البعير: ردد صوته في حنجرته. والفنيق: الفحل من الإبل.
6 - خطر: إذا حرّك ذنبه.
7 - المغرز - بكسر الراء -: ما يختفي فيه.
8 - الغِرة - بكسر الغين -: الانخداع. وملاحظين: ناظرين ومراعين.
9 - أحمشكم: أغضبكم.
10 - الوسم: الكي، وسمه: كواه.
11 - الشرب - بكسر الشين -: النصيب من الماء.
12 - الكلم: الجرح. ورحيب: واسع.
13 - اندمل: تراجع إلى البراء.
14 - يقبر: يدفن.
15 - ابتداراً: معاجلةً.
16 - تؤفكون: أي تصرفون.
17 - ريث: قدر.
18 - يسلس: يسهل.
19 - تورون: تخرجون نارها. تهيّجون: تثيرون.
20 - يأتي المعنى في شرح الخطبة.
21 - الخمر - بفتح الخاء والميم -: ما يسترك من الشجر وغيره.
22 - المدى - بضم الميم -: جمع مدية وهي الشفرة.
23 - الوخز: الطعن، والسنان: رأس الرمح.
24 - سورة إبراهيم: آية 22.

(5)
فَاطِمَةُ الزهْرَاء (عليها السلام) تخاصِمُ الرئِيس
يا ابن أبي قحافة!
أفي كتاب الله أن ترث أباك ولا أرث أبي؟
لقد جئت شيئاً فرّياً!!(1)
أفعلى عمد تركتم كتاب الله ونبذتموه وراء ظهوركم؟
إذ يقول:
(وورث سليمان داود)(2)
وقال - فيما اقتص من خبر زكريا - إذ قال:
(فهب لي من لدنك وليّاً يرثني ويرث من آل يعقوب)(3)
وقال:
(وأُولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله)(4).
وقال:
(يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين)(5).
وقال:
(إن ترك خيراً الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقاً على المتقين)(6).
وزعمتم أن لا حظوة لي!(7).
ولا إرث من أبي!
أفخصّكم الله بآية أخرج أبي منها؟
أم تقولون: إن أهل ملتين لا يتوارثان؟
أوَلست أنا وأبي من أهل ملَّة واحدة؟
أم أنتم أعلم بخصوص القرآن وعمومه من أبي وابن عمي؟
فدونكها مخطومة مرحولة(8).
تلقاك يوم حشرك.
فَنِعم الحَكَم الله.
والزعيم محمد.
والموعد القيامة.
وعند الساعة يخسر المبطلون.
ولا ينفعكم إذ تندمون.
ولكل نبأ مستقر، فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يُخزيه، ويحلّ عليه عذاب مقيم.
ثم رَمَتْ بِطَرفها نحو الأنصار فقالت:
يا معشر النقيبة
وأعضاد الملَّة
وحَضَنَة الإسلام(9).
ما هذه الغَميزة في حقي؟(10).
والسِّنَة عن ظلامتي؟
أما كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) أبي يقول:
(المرء يُحفظ في وُلده)؟
سرعان ما أحدثتم
وعجلان ذا إهالة
ولكم طاقة بما أُحاول
وقوة على ما أطلب وأُزاول(11)
أتقولون: مات محمد (صلى الله عليه وآله)
فخطب جليل
استوسع وهنة(12)
واستنهر فتقه(13)
وانفتق رتقه
وأظلمت الأرض لغيبته
وكسفت النجوم لمصيبته
وأكدت الآمال(14)
وخشعت الجبال
وأُضيع الحريم(15)
وأُزيلت الحرمة عند مماته
فتلك - والله - النازلة الكبرى(16)
والمصيبة العظمى
لا مثلها نازلة
ولا بائقة عاجلة(17)
أعلن بها كتاب الله - جلّ ثناؤُه - في أفنيتكم(18)
في ممساكم ومصبحكم
هتافاً وصراخاً
وتلاوة وألحاناً
ولَقبلَه ما حلَّ بأنبيائه ورُسله
حكم فصل، وقضاء حتم
(وما محمد إلاّ رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضرّ الله شيئاً وسيجزي الله الشاكرين)(19).
شرحها
(يا بن أبي قحافة) هنا وجّهت السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) خطابها إلى رئيس الدولة، ولم تقل له: يا خليفة رسول الله لأن رسول الله (صلى الله عليه وآله) لم يستخلفه، ولم تخاطبه بالكنية (يا أبا بكر) لأنه تعظيم له، وإنما قالت له: يا بن أبي قحافة. وسيتضح لك وجه هذا النسب، في المستقبل في شرح كلماتها مع زوجها أمير المؤمنين (عليه السلام).
(أفي كتاب الله أن ترث أباك ولا أرث أبي؟) بأي قانون ترث أباك إذا مات ولا أرث أبي إذا مات؟؟ هل تعتمد على كتاب الله في منعي عن إرث أبي؟
(لقد جئت شيئاً فرياً) لقد جئتَ بافتراء عظيم، وكذب مختلق على القرآن.
لقد ذكرنا - فيما مضى - أن السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) كانت تستحق فدكاً عن طريق النحلة وعن طريق الإرث، فلما طالبت بفدك عن طريق النحلة وأقامت الشهود على ذلك صنعوا ما صنعوا والآن جاءت تطالب بفدك عن طريق الميراث.
(أفعلى عمدٍ تركتم كتاب الله ونبذتموه وراء ظهوركم) أليس هذا القرآن موجوداً عندكم؟ فلماذا تركتم العمل به وطرحتموه وراءكم؟
(إذ يقول: وورث سليمان داود) أليس هذا تصريحاً بقانون التوارث والوراثة بين الأنبياء؟ أما كان سليمان وابنه داود من الأنبياء؟
إن السيدة فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) فهمت من الآية أن معنى: (وورث سليمان داود) هو إرث المال، وهكذا فهم أبو بكر وهكذا جميع المسلمين الحاضرين يومذاك وهم يستمعون إلى كلام السيدة فاطمة، هؤلاء كلهم قد فهموا أن المقصود من الإرث في هذه الآية هو إرث المال، ومعنى ذلك أن سليمان ورث أموال أبيه داود، ولم يفهموا غير هذا.
وهكذا الكلام في قوله تعالى - فيما اقتص من خبر زكريا -: (فهب لي من لدنك وليّاً يرثني ويرث من آل يعقوب) إن زكريا (عليه السلام) سأل الله تعالى أن يرزقه ولداً يرثه المال.
ولكن بعد قرون عديدة جاء المدافعون عن السلطة، فقالوا: في تفسير الآيتين: ورث سليمان داود العلم لا المال، وهكذا: ولياً يرثني العلم لا المال، وهم يقصدون بهذا التفسير تأييد الذين حرموا السيدة فاطمة من ميراث أبيها الرسول (صلى الله عليه وآله).
ولا بأس أن نتحدث - بما تيسر - حول الآيتين لعلنا نصل إلى نتيجة مطلوبة:
أولاً: لفظ الإرث والميراث يستعمل شرعاً وعرفاً ولغة في المال، فإذا قلنا: فلان وارث فلان. فالظاهر أنه وارثه في المال. لا أنه وارثه في العلم أو المعرفة، إلا إذا كانت هناك قرينة أي دليل يدل على إرث العلم والمعرفة كقوله تعالى: (وأورثنا بني إسرائيل الكتاب) وقوله: (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا).
فأما قولـه: (وورث سليمان داود) فالمقصود إرث المال لا إرث العلم والملك وما شابه، لأن سليمان كان نبياً في حياة أبيه داود، كما قال تعالى - في قصة الزرع الذي نفشت فيه غنم القوم - (ففهَّمناها سليمان وكلاّ آتينا حكماً وعلماً..)(20) وقد ذكر الزمخشري في الكشاف ج23 في تفسير قوله تعالى: (إذْ عُرض عليه بالعشي الصافنات الجياد) روي أن سليمان غزا أهل دمشق ونصيبين فأصاب ألف فرس، وقيل: ورثها من أبيه، وأصابها أبوه من العمالقة، وقال البيضاوي: وقيل أصابها أبوه من العمالقة فورثها منه فاستعرضها.. الخ.
فإنك تجد أن سليمان ورث أباه داود تلك الخيول والأفراس، وورثه غيرها من التركة والأموال التي تركها داود، وبهذين القولين ثبت أن سليمان لم يرث العلم والنبوة من أبيه داود لأن سليمان كان نبياً في زمان أبيه داود كما كان هارون نبياً في زمان أخيه موسى بن عمران (عليهما السلام) وثبت أيضاً أن سليمان ورث أباه داود المال.
وأما ما يتعلق بدعاء زكريا (عليه السلام) ربه: (فهب لي من لدنك وليّاً يرثني) فقد قال بعض الشواذ: يرثني نبوتي، فهو يريد نفي الوراثة عن الأنبياء، ولكن الآية الكريمة بنفسها تكشف الحقيقة عن مراد زكريا.
فقوله: (واجعله رب رضياً) يدل على أنه ليس المقصود إرث النبوة لأنه يكون المعنى أن زكريا سأل ربه أن يهب له ولياً يرثه النبوة ويكون ذلك الولي مرضياً عند الله، وهذا كقول القائل: اللهم ابعث لنا نبياً واجعله عاقلاً مرضياً في أخلاقه، وهذا لغو وعبث، ولا يستحسن من زكريا أن يسأل ربه أن يجعل ذلك النبي رضياً أي مرضياً في أخلاقه، لأن النبوة أعظم من هذه الصفات، وجميع هذه الصفات تندرج تحت النبوة، وقد قال فخر الدين الرازي: إن المراد بالميراث في الموضعين (الآيتين) هو وراثة المال.
وللمفسرين كلام حول دعاء زكريا (عليه السلام) لا بأس بذكره ملخصاً:
قال الطبرسي في (مجمع البيان) في تفسير الآية: ويقوّي ما قلنا أن زكريا صرّح بأنه يخاف بني عمه بعده بقوله: (وإني خفت الموالي من ورائي) وإنما يطلب وارثاً لأجل خوفه، ولا يليق خوفه منهم إلاّ بالمال دون النبوة والعلم، لأنه (عليه السلام) كان أعلم بالله تعالى من أن يخاف أن يبعث نبياً من ليس بأهل للنبوة، وأن يورث علمه وحكمته من ليس لهما بأهل، ولأنه إنما بُعث لإذاعة العلم ونشره في الناس فكيف يخاف من الأمر الذي هو الغرض في بعثته؟
فإن قيل: إن هذا يرجع في وراثة المال، لأن في ذلك إضافة الضن والبخل إليه، قلنا: معاذ الله أن يستوي الأمران، فإن المال قد يُرزق به المؤمن والكافر والصالح والطالح، ولا يمتنع أن يأسى على بني عمه إذا كانوا من أهل الفساد أن يظفروا بماله فيصرفوه فيما لا ينبغي، بل في ذلك غاية الحكمة، فإن تقوية الفسّاق وإعانتهم على أفعالهم المذمومة محظورة في الدين، فمن عدّ ذلك بخلاً وضناً فهو غير منصف وقوله: (خفت الموالي من ورائي) يفهم منه أن خوفه إنما كان من أخلاقهم وأفعالهم ومعاني فيهم لا من أعيانهم.
لقد تلخص من مجموع الأقوال أن المقصود من الوراثة في آية سليمان بن داود وآية زكريا هو وراثة المال، والنتيجة أن الوراثة كانت بين الأنبياء.
(وقال: وأُولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله) أي وذوو الأرحام والقرابة بعضهم أحق بميراث بعضهم من غيرهم، وهذه الآية عامة في التوارث بين الأرحام والأقارب.
(وقال: يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأُنثيين) أي يأمركم الله ويفرض عليكم في توريث أولادكم إذا متّم للابن مثل نصيب البنتين وهذه الآية أيضاً عامة في جميع المسلمين بلا تخصيص للأنبياء إنهم لا يورّثون أولادهم.
(وقال: إن ترك خيراً الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقاً على المتقين) إن الآية هكذا: (كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيراً..) أي إن ترك مالاً، وهذه آية ثالثة عامة في الوراثة وليس فيها تخصيص للأنبياء أو نفي الوراثة بين الأنبياء.
(وزعمتم أن لا حظوة لي) أي ادَّعيتم أن لا نصيب ولا منزلة لي (ولا إرث من أبي) رسول الله (صلى الله عليه وآله) (ولا رحم بيننا) ولا قرابة ولا صلة لأنكم أنكرتم الوراثة الثابتة بيني وبين أبي، فقد أنكرتم كل صلة وعلاقة وقرابة بيني وبين أبي.
(أفخصَّكم الله بآية أخرج منها أبي) وفي نسخة: (أَفَحَكَم الله بآية) إن آيات الإرث عامة وشاملة لجميع المسلمين، فهل استثنى الله أبي من آيات الإرث فلا وراثة بين النبي وأهله؟
(أم تقولون: إن أهل ملَّتين لا يتوارثان) فالكافر لا يرث المسلم؟
(أو لست أنا وأبي من أهل ملَّة واحدة؟) هل تشكون في إسلامي وكوني مسلمة، وعلى شريعة الإسلام؟
يا للمصيبة‍‍! لقد بلغ الأمر ببضعة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وابنته الوحيدة وسيدة نساء العالمين أن تتكلم هكذا، وتحتج بهذا المنطق؟ فإنا لله وإنا إليه راجعون.
(أم أنتم أعلم بخصوص القرآن وعمومه من أبي وابن عمي؟) إنّ آيات الإرث عامة فإن كانت مخصَّصة للرسول كان الرسول يعلم ذلك، ويخبر ابنته مع العلم أنه (صلى الله عليه وآله) لم يخبر ابنته ولا غيرها من الناس بهذا الحكم الخاص، وهل من المعقول أن يُخفي رسول الله (صلى الله عليه وآله) هذا الحكم من ابنته مع شدة اتصالها به وكثرة تعلقه بها، وشدة الحاجة إلى بيان الحكم لها لئلا تطالب بالإرث بعد وفاة أبيها الرسول (صلى الله عليه وآله).
تقول السيدة فاطمة أم تقولون: أنكم أنتم أعلم بالقرآن وآياته الخاصة والعامة من أبي رسول الله (صلى الله عليه وآله) الذي نزل القرآن على قلبه؟ أم أنتم أعلم من ابن عمي علي بن أبي طالب باب مدينة علم الرسول إذا لو كان الأمر هكذا لكان زوجي يخبرني، وما كان يأمرني أن أحضر في المسجد وأطالب بحقوقي وإرث أبي.
هذه جميع الصُور التي يمكن أن يتصورها الإنسان في هذه المسألة، وكلها منتفية، وإذن فالقضية سياسية، وليست دينية، بل هي مؤامرة ضد آل رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومحاربة اقتصادية لتضعيف جانبهم الاقتصادي.
(فدونكها مخطومة مرحولة) إلى هنا كان الخطاب عاماً لجميع المسلمين الحاضرين في المسجد وهنا وجهّت خطابها إلى رئيس الدولة وحده، وقالت: (فدونكها) أي خذها، خذ فدك وشبّهت فدك بالناقة التي عليها رحلها وخطامها، والرحل للناقة كالسرج للفرس، والخطام: الزمام، والمقصود: خذ فدك جاهزة مهيأة، وفي هذا الكلام تهديد، وهذا كما يقال للمعتدي: افعل ما شئت، وانهب ما شئت هنيئاً مريئاً.
ولهذا أردفت كلامها بقولها: (تلقاك يوم حشرك) إشارة إلى أن الإنسان يرى أعماله يوم القيامة قال تعالى: (ووجدوا ما عملوا حاضراً).
(فنِعم الحَكم الله) في ذلك اليوم الحكم لله الواحد القهار، لا لك، الذي لا يجور، الذي لا يخفى عليه شيء من مظالم العباد.
(والزعيم محمد) المحامي الذي يخاصمك هو سيد الأنبياء، وهو أبي، يطالبك بحق ابنته فاطمة.
(والموعد القيامة) وهو يوم الفصل الذي كان ميقاتاً، وعند الله تجتمع الخصوم.
(وعند الساعة يخسر المبطلون) يخسر الذين ادّعوا الباطل، وادّعوا ما ليس لهم.
(ولا ينفعكم إذ تندمون) لا ينفع الندم في ذلك اليوم، إذ الإنسان قد يندم في الدنيا على عمله فينفعه الندم إذ إنه لا يعود إلى ذلك العمل، ولكن في القيامة لا ينفع الندم إذ لا عمل هناك وإنما هو الحساب.
(ولكل نبأ مستقر فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحلّ عليه عذاب مقيم) وهذا تهديد بعذاب الآخرة، الدائم المستمر.
ثم رَمَتْ بطرفها نحو الأنصار وهم أهل المدينة الذين نصروا رسول الله (صلى الله عليه وآله) لما هاجر من مكة إلى المدينة، واستنصرتهم بعد أن ذكّرتهم بسوابقهم المشرقة في عهد الرسول.
وقالت: (يا معشر النقيبة) أيتها الطائفة النجيبة، وفي نسخة: (يا معاشر الفتية) نسبت إليهم الفتوة والشهامة كي تهيّج عزائمهم وعواطفهم.
(وأعضاد الملة) أعوان الدين.
(وحضَنَة الإسلام) أيها المحافظون على الإسلام، احتضنتم الإسلام كما تحتضن المرأة ولدها أو كما يحتضن الطائر بيضه.
(ما هذه الغميزة في حقي؟) ما هذا التغافل والسكوت عن حقي؟
(والسِنة عن ظلامتي؟) السنة - بكسر السين - الفتور في أول النوم. والظلامة: ما أخذه الظالم منك فتطلبه عنده، وتصف فاطمة الزهراء (عليها السلام) سكوتهم عن إسعافها بالسنة التي هي مقدمة للنوم الذي يفقد النائم فيه الشعور.
نعم، إنه موت الضمير، وتعطيل الإحساس، وركود العاطفة، وفقد الإنسانية.
(أما كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) أبي يقول: المرء يُحفَظ في ولده؟) أي تحفظ كرامة الإنسان بحفظ كرامة أولاده ورعاية حقوقهم، كما قيل: (لأجل عين ألف عين تُكرم) أليس رسول الله أبي؟ ألستُ ابنته؟ أما ينبغي لكم أن تحترموا مكانتي لأجل رسول الله (صلى الله عليه وآله).
وفي نسخة: (أما كان لرسول الله أن يحفَظ في وُلده؟) أما كان يستحق رسول الله أن تحفظ كرامته في أولاده وذريته؟
(سرعان ما أحدثتم) تتعجب السيدة فاطمة الزهراء من إسراعهم في إحداث الأمور، والاعتداء على آل الرسول (صلى الله عليه وآله).
(وعجلان ذا إهالة) هذه الكلمة تشير إلى قضية ويضرب بها المَثَل، وهي أن رجلاً كان له نعجة عجفاء هزيلة، يسيل مخاطها من منخريها، فقيل له: ما هذا؟ قال: سرعان ذا إهالة. والإهالة: الشحم، أو الشحم المذاب، وتستعمل هذه الكلمة لمن يخبر بالشيء قبل وقته، والمقصود: إنكم دبَّرتم الأمور ضدّنا بكل استعجال وبكل سرعة.
(ولكم طاقة بما أُحاول) عندكم قدرة وإمكانية لإسعافي ومساعدتي ونُصرتي في استرجاع حقوقي المغصوبة التي أقصد استردادها.
(وقوة على ما أطلب وأُزاول) لستم ضعفاء عاجزين عن حمايتي والدفاع عني، فما عذركم، ما سبب سكوتكم؟ ما هذا التخاذل؟
(أتقولون: مات محمد) ومات دينه، وماتت كرامته وحرمته، وماتت المفاهيم المثلى، وخلى الجو؟ أهذا جرّأكم علينا أهل البيت؟
(فخطب جليل) فأمر عظيم شديد، لأن موت العظماء عظيم، وفي نسخة: (أتزعمون مات رسول الله (صلى الله عليه وآله) أيتم دينه، ها أن موته لعمري خطب جليل) ثم جعلت (عليها السلام) تصف فظاعة المصيبة ومدى عظمتها، وتأثيرها في النفوس، فقالت:
(استوسع وهنه) وفي نسخة: (استوسع وهيه) كالحصن الذي اتّسع شقه (واستنهر فتقه) كالطعنة التي توسع الشق في البدن.
(وانفتق رتقه) انشق المكان الملتئم منه، والضمائر الثلاثة في وهنه وفتقه ورتقه تعود إلى الخطب.
(وأظلمت الأرض لغيبته) من الطبيعي أنه كان نوراً تستضيء به الأرض ومن عليها وبوفاته أظلمت الأرض، وتجد في القرآن آيات كثيرة تعبّر عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالنور كقوله تعالى: (قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين)(21).
(وكسفت النجوم لمصيبته) إن الضوء الذي تراه على وجه القمر وعلى بقية النجوم ما هو إلا انعكاس لنور الشمس على القمر والنجوم، فإذا زال نور الشمس انكسفت النجوم وزال عنها الضوء.
(وأكدت الآمال) أي انقطعت الآمال التي كانت منوطة برسول الله (صلى الله عليه وآله) بسبب وفاته، وذلك كما يقال: خابت الظنون وانقطعت الآمال.
(وخشعت الجبال) من هول الفاجعة، وعظم الواقعة حتى الجمادات تتأثّر بالحوادث العظيمة، كما قال تعالى: (لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله)(22).
(وأضيع الحريم) الحريم: ما يحميه الرجل ويقاتل عنه، والمقصود - هنا - حريم آل الرسول وهم عترته الطيبة، نعم، ضاع حريمه أيّ ضياع! وانتهكت حرمته أي انتهاك!.
(وأُزيلت الحرمة عند مماته) وفي نسخة: (أُديلت الحرمة عند مماته) أي غُلبت (بضم الغين وكسر اللام).
(فتلك - والله - النازلة الكبرى، والمصيبة العظمى) إن مصيبة وفاة العظماء تكون عظيمة، فكلما كانت عظمة المتوفى أكثر كانت مصيبة وفاته أعظم وأفجع، ولقد كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) أشرف مخلوق وأعظم إنسان، وأطهر كائن فبالطبع تكون وفاته نازلة كبرى ومصيبة عظمى.
(لا مثلها نازلة) لا توجد في العالم مصيبة كبيرة كمصيبة وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله) لأنه لا يوجد في العالم موجود كرسول الله (صلى الله عليه وآله).
(ولا بائقة عاجلة) أي لا مثلها داهية في القريب العاجل، إذ من الممكن أن تحدث في العالم حادثة أعظم وقعاً من وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله) وهي حادثة قيام الساعة وقيام القيامة.
ولقد وصف الإمام عليّ أمير المؤمنين (عليه السلام) مصيبة وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله) بقولـه: (فنزل بي من وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) ما لم أكن أظن الجبال لو حملته عنوة كانت تنهض به، فرأيت الناس من أهل بيتي ما بين جازع لا يملك جزعه، ولا يضبط نفسه، ولا يقوى على حمل فادح ما نزل به، قد أذهب الجزع صبره، وأذهل عقله، وحال بينه وبين الفهم والإفهام، والقول والاستماع).
(أعلن بها كتاب الله - جل ثناؤه - في أفنيتكم) أعلن القرآن الكريم بوفاة الرسول في جوانبكم ونواحيكم، أي القرآن يُتلى آناء الليل وأطراف النهار، وأصوات التلاوة مرتفعة من المسجد ومن البيوت والمساكن، وفي نسخة: (في قبلتكم) والمقصود المسجد أو المصلىّ الذي يتلى فيه القرآن.
(في ممساكم ومصبحكم) مساءً وصباحاً كنتم تسمعون الآيات التي تخبر عن وفاة الرسول (هتافاً وصراخاً) كان الإعلان بوفاة الرسول بأنواع مختلفة: بالهتاف وهو القراءة مع الصوت والصراخ وهو القراءة بالصوت الشديد.
(وتلاوة وألحاناً) بالتلاوة إذا كانت القراءة سريعة وبالألحان إذا كانت بتأمل وتأنّي (ولقبله ما حلَّ بأنبيائه ورسله حكم فصل، وقضاء حتم) إن الموت الذي حلّ بالأنبياء الذين كانوا قبل الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) كان من الأحكام المقطوع بها، التي لا شك فيها، والقضاء الذي لا يقبل التغيير، والمقصود: أن الموت هو سُنّة الله في عباده من أنبياء وغيرهم، ثم استدلت على كلامها بقول الله تعالى: (وما محمد إلاّ رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً وسيجزي الله الشاكرين) ووجه الاستدلال بالآية أن محمداً رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقد مضت من قبله الأنبياء، ومات قبله المرسلون إذن فالموت ليس بشيء عجيب بالنسبة للرسول، بل على هذا جرت سنة الله في أنبيائه إنهم يذوقون الموت كبقية الخلائق، وهذا لا يعني أنه إذا مات ماتت شريعته ومات دينه، وذهبت كرامته وحرمته.
(أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم) أي فإن أماته الله أو قتله الكفار ارتددتم بعد إيمانكم، فسمّى الارتداد انقلاباً على العقب، والرجوع القهقرى، (ومن ينقلب على عقبيه) يرتدَّ عن دينه (فلن يضر الله شيئاً) بل المضرة عائدة على المرتد (وسيجزي الله الشاكرين) المطيعين.
1 - فريّاً: أمراً عظيماً أو منكراً قبيحاً.
2 - سورة النمل: آية 16.
3 - سورة مريم: آية 6.
4 - سورة الأنفال: آية 75.
5 - سورة النساء: آية 11.
6 - سورة البقرة: آية 180.
7 - الحظوة: النصيب.
8 - ناقة مخطومة ومرحولة، الخطام - بكسر الخاء -: الزمام. ومرحولة من الرحل وهو للناقة كالسرج للفرس.
9 - حضنة: جمع حاضن بمعنى الحافظ.
10 - الغيمزة: الضعف أو الغفلة.
11 - أُزاول: أقصد.
12 - استوسع وهنه: اتسع غاية الاتساع. وهنة وفي نسخة: وهيه أي شقّه وخرقه.
13 - كالمعنى المتقدم.
14 - أكدت: انقطعت.
15 - الحريم: ما يحميه الرجل ويقاتل عنه.
16 - النازلة: الشديدة.
17 - البائقة: الداهية.
18 - أفنيتكم: جمع فناء - بكسر الفاء - جوانب الدار من الخارج أو العرصة المتسعة أمام الدار.
19 - سورة آل عمران: آية 144.
20 - سورة الأنبياء: آية 79.
21 - سورة المائدة: آية 15.
22 - سورة الحشر: آية 21.

(6)
عتَاب وخِطَابٌ مَعَ المُسْلِمين
إيهاً بني قيلة!(1)
أأُهضم تراث أبيه؟
وأنتم بمرأى منّي ومسمع
ومنتدى ومجمع(2)
تلبسكم الدعوة
وتشملكم الخبرة(3)
وأنتم ذوو العدد والعُدّة
والأداء والقوة
وعندكم السلاح والجُنّة
توافيكم الدعوة فلا تجيبون؟
وتأتيكم الصرخة فلا تعينون؟
وأنتم موصوفون بالكفاح، معروفون بالخير والصلاح
والنخبة التي انتخبت، والخيرة التي اختيرت(4)
قاتلتم العرب، وتحمَّلتم الكدَّ والتعب(5)
وناطحتم الأُمم
وكافحتم البُهَم(6)
لا نبرح أو تبرحون
نأمركم فتأْتمرون
حتى إذا دارت بنا رحى الإسلام
ودَرَّ حلب الأيام(7)
وخضعت ثغرة الشرك(8)
وسكنت فورة الإفك
وخمدت نيران الكفر(9)
وهدأت دعوة الهرج
واستوسق نظام الدين
فأنّى حِرتم بعد البيان؟(10)
وأسررتم بعد الإعلان؟
ونكصتم بعد الإقدام؟(11)
وأشركتم بعد الإيمان؟
(ألا تقاتلون قوماً نكثوا إيمانهم وهمــّوا بإخـــراج الرســـول وهــــم بدأوكم أوّل مرة أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين)(12).
ألا: قد أرى أن قد أخلدتم إلى الخفض(13)
وأبعدتم مَن هو أحقُّ بالبسط والقبض
وخلوتم إلى الدعة(14)
ونجوتم من الضيق بالسعة(15)
فمججتم ما وعيتم(16)
ودسعتم الذي تسوّغتم(17)
فـ(إن تكفروا أنتم ومَن في الأرض جميعاً فإن الله لغني حميد)
ألا: قد قلتُ ما قلت على معرفة مني بالخذلة التي خامرتكم(18)
والغدرة التي استشعرتها قلوبكم(19)
ولكنها فيضة النفس(20).
ونفثة الغيظ(21).
وخَوَر القنا(22)
وبثَّة الصدر
وتقدمة الحجة
فدونكموها، فاحتقبوها دَبِرَة الظَّهر(23).
نقبة الخُف(24)
باقية العار
موسومة بغضب الله
وشنار الأبد(25)
موصولة بنار الله الموقدة التي تطّلع على الأفئدة
فبعين الله ما تفعلون
(وسيعلم الذين ظلموا أيَّ منقلب ينقلبون)
وأنا ابنة نذير لكم بين يدي عذاب شديد
فاعملوا إنا عاملون، وانتظروا إنا منتظرون
شرحها
(إيهاً! بني قيلة) إيهاً بمعنى هيهات، وبمعنى الأمر بالسكوت، أو بمعنى طلب الزيادة من التحدث. يا أولاد قيلة، وهم الأوس والخزرج، وقد تقدم الكلام عن شرحها.
(أأُهضم تراث أبي؟) وفي نسخة: (أبيه) وقد تقدم أن الهاء - هنا - للوقوف والسكون والمعنى: هل يظلمونني في إرث أبي؟
(وأنتم بمرأى مني ومسمع) والحال أنتم في مجلس ومكان يجمع بيني وبينكم، والمقصود: أنتم حاضرون وتسمعون كلامي وشكايتي، وترون حالي ومظلوميتي.
(تلبسكم الدعوة) تحيط بكم دعوتي وندائي.
(وتشملكم الخبرة) ويشملكم العلم وتعلمون الخبر، وفي نسخة: (الحيرة) أي متحيرون أمام هذه المخاصمة.
(وأنتم ذوو العدد والعدة) وأنتم أصحاب العدد الكثير والتأهب والاستعداد، أي لستم قليلين حتى تعتذروا بقلّة العدد، بل أنتم ذو العدد الكامل.
(والأداة والقوة) عندكم الوسائل والقدرة والإمكانية لإسعافي ونصرتي.
(وعندكم السلاح والجُنة) وعندكم الأسلحة التي حاربتم بها وجاهدتم في سبيل الله، وعندكم وسائل الدفاع.
(توافيكم الدعوة فلا تجيبون) تبلغكم دعوتي واستغاثتي فلا تجيبوني؟
(وتأتيكم الصرخة فلا تعينون) تأتيكم صرختي، صرخة المظلومية والاضطهاد فلا تعينوني؟
(وأنتم موصوفون بالكفاح) الجهاد في سبيل الله، واستقبال العدو ومباشرة الحرب.
(معروفون بالخير والصلاح) الأعمال الحسنة.
(والنخبة التي انتخبت) إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) انتخب المدينة وانتخبكم لهذه الغايات والصفات.
(والخيرة التي اختيرت) واختاركم رسول الله (صلى الله عليه وآله) لنصرته، ولهذا هاجر إليكم.
(قاتلتم العرب) لأجل نصرة النبي، وإعلاء كلمة الإسلام.
(وتحملتم الكد والتعب) في الحروب والغزوات، ومضاعفاتها من الحر والبرد، والتضحية وتحمّل الجراح.
(وناطحتم الأمم) قاتلتم الملل المختلفة من يهود ونصارى وغيرهم، كل ذلك دافعاً عن الرسول.
(وكافحتم البُهم) قاتلتم الشجعان بدون ضعف وتواني.
(لا نبرح أو تبرحون) أي لا نبرح ولا تبرحون (نأمركم فتأتمرون) أي كنّا لم نزل آمرين وكنتم لأوامرنا مطيعين.
(وحتى إذا دارت بنا رحى الإسلام) أي قاتلتم وتحملتم وناطحتم وكافحتم بصورة مستمرة حتى إذا دارت بنا رحى الإسلام حتى إذا انتظم أمر الإسلام بمساعينا وسببنا، ودارت رحى الإسلام دوراناً صحيحاً منتظماً.
(ودرَّ حلب الأيام) وكثرت الخيرات والغنائم بسبب الفتوحات كاللبن الذي يدرّ أي يسيل بكثرة من الثدي.
(وخضعت ثغرة الشرك) ذلّت رقاب المشركين وخياشيمهم للإسلام وسقطوا عن الاعتبار.
(وسكنت فورة الإفك) وهي غليان الكذب وهيجانه.
(وخمدت نيران الكفر) أي نيران الحرب التي كان الكفار يؤججونها.
(وهدأت دعوة الهرج) سكنت دعوة الفتنة والباطل، وهدأت الإضطرابات.
(واستوسق نظام الدين) أي اجتمع وانتظم أمر الدين بعدما كان متشتتاً.
(فأنَّى حرتم بعد البيان؟) والآن وبعد هذه المقدمات كيف تحيرتم بعد بيان الحالة ووضوحها عندكم، وكيف وقعتم في وادي الحيرة؟
(وأسررتم بعد الإعلان؟) وكيف أخفيتم أشياء كانت معلنة، أو كنتم تتجاهرون بها.
(ونكصتم بعد الإقدام) وكيف رجعتم القهقري بعد إقدامكم على الإسلام.
(وأشركتم بعد الإيمان؟) أشركتم بالله بمخالفتكم للرسول (صلى الله عليه وآله) في أمر عترته.
(ألا تقاتلون قوماً نكثوا إيمانهم وهمّوا بإخراج الرسول وهم بدأوكم أول مرة أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين).
أدمجت السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) هذه الآية في حديثها، وإن كانت الآية نزلت في مشركي مكة الذين أرادوا إخراج رسول الله (صلى الله عليه وآله) من مكة أو نزلت في اليهود والنصارى الدين نقضوا عهدهم وهمّوا بإخراج الرسول من المدينة وعلى كل تقدير فإن السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) تستنفرهم وتستنهضهم لنصرتها، ولا تقصد بكلامها هذا إثارة الفتنة، ولا إراقة الدماء، ولا تريد أن تقود جيشاً، أو تتزعم حزباً، بل هي عارفة بأحوال الناس واتجاهاتهم، عالمة بأن الأمر دبّر بليل، ولهذا قالت:
(ألا: قد أرى أن قد أخلدتم إلى الخفض) أي أعلم أنكم قد أقمتم على الراحة وسعة العيش.
(وأبعدتم مَن هو أحق بالبسط والقبض) أبعدتم الإمام عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) الذي هو أحق وأولى بولاية الأمور، والتصرف في قضايا الإسلام من غيره.
(وخلوتم بالدعة) أي انفردتم بالراحة والسكون.
(ونجوتم من الضيق بالسعة) لأن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) لا يهادن، ولا يصانع، ولا يفضّل أحداً على أحد بالعطاء، وهذا ضيق بالنسبة لكم، ولهذا نجوتم من هذا الضيق، وانتقلتم إلى مَن هو طوع أمركم، سلس القيادة، يفعل ما تشاءون، ويحكم بما تريدون.
(فمججتم ما وعيتم) أي رميتم من أفواهكم ما حفظتم.
(ودسعتم الذي تسوّغتم) أي تقيأتم الشيء الذي شربتموه بسهولة ولذة، والمقصود الانسحاب عن الدين، ورفض الإيمان ولهذا أردفت كلامها هذا بهذه الآية.
فـ(إن تكفروا أنتم ومَن في الأرض جميعاً فإن الله لغني حميد) ولا تضرون إلاَّ أنفسكم، ولا تخسرون إلاَّ دينكم.
(ألا: قد قلت ما قلت على معرفة مني بالخذلة التي خامرتكم) تقول: (عليها السلام) أنا أعلم اتجاهاتكم، وأعرف نفسياتكم، وحينما خطبت فيكم واستنهضتكم كنت أعلم بأنكم لا تنصرونني ولا تسعفونني.
(والغدرة التي استشعرتها قلوبكم) استشعر الثوب إذا جعله شعاراً أي جعله متصلاً لجسده، ملاصقاً لبدنه، تقول (عليها السلام) أنا أعرف الغدر الملاصق بقلوبكم، الغدر الذي جعلتها قلوبكم شعاراً لها، والغدر ضد الوفاء، أي لا أنتظر منكم الوفاء لمعرفتي بالغدرة الموجودة في قلوبكم.
(ولكنها فيضة النفس) أي تعبير عن الآلام في النفس، فكما أن الإناء يفيض إذا امتلأ بالماء كذلك النفس تفيض من كثرة الحزن واستيلاء الهم.
(ونفثة الغيظ) ظهور آثار الغضب الموجود كالنزيف الذي يدل على القرحة في الباطن (وخور القنا) أي ضعف الرمح، والمقصود عدم تحمّل لأكثر من هذه.
(وبثة الصدر) قال يعقوب (عليه السلام): (إنما اشكو بثّي) أي همّي، وهو الهم الذي لا يقدر صاحبه على كتمانه فيظهره.
(وتقدمة الحجة) إني خطبتُ فيكم، وقلتٌ ما قلت لا طمعاً في نصرتكم، ولا رجاءً في حمايتكم، وإنما كان ذلك لأسباب نفسية ودينية، أما الأسباب النفسية فقد ذكرتها، وأما الأسباب الدينية فهي تقدمة الحجة، أي إعلامكم بكل ما يلزم، وذكر كل دليل وبرهان وحجة على ما أقول، لئلا تعتذروا يوم القيامة، إنا كنا عن هذا غافلين أو ناسين، أو جاهلين، ما أبقيتُ لذي عذر عذراً، ولا لذي مقال مقالاً، عرَّفت نفسي ونسبي لكم، وذكرت ما يتعلق بالإمامة، وذكرت حقي في فدك، واستشهدت بالآيات البينات الثابتة عندكم حول الميراث بصورة عامة وحول ميراث الأنبياء بصورة خاصة، واستنهضتكم لنصرتي والطلب بحقي، فلم أجد فيكم مجيباً مُعيناً.
(فدونكم إياها فاحتقبوها دبرة الظهر) خذوا الخلافة وشدّوا عليها حقائبكم، وكأنها ناقة مجروحة الظهر، (نقبة الخف) رقيقة الخف.
(باقية العار) دائمة الخزي في الدنيا على مرّ التاريخ، وفي الآخرة وإلى الأبد.
(موسومة بغضب الله وشنار الأبد) على تلك الناقة علامة غضب الله وسخطه، وعليها علامة العار الأبدي الذي ينتهي بكم إلى:
(نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة) التي تتوقد وتؤجج نارها بصورة دائمة التي تحرق الظاهر والباطن، وتصل إلى الأفئدة والقلوب.
(فبعين الله ما تفعلون) إن الله تعالى يرى أعمالكم وأفعالكم ولا يغيب عنه ولا يخفى عليه شيء فكأنَّ أفعالكم هذه بمحضر من الله تعالى.
(وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون) وأي جزاء سيجازون وأي جحيم وعذاب سيصيرون إليه.
(وأنا ابنة نذير لكم بين يدي عذاب شديد) إشارة إلى قوله تعالى: (يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً) أنا ابنة محمد (صلى الله عليه وآله) الذي أنذرتكم بعذاب الله الذي أعدّه للظالمين.
(فاعملوا إنا عاملون) اعملوا ما شئتم من ظلمنا فإنا عاملون ما يجب علينا من الصبر والتحمل (وانتظروا إنا منتظرون) انتظروا عواقب أفعالكم ونحن ننتظر عواقب الصبر على المحن.
1 - إيهاً: بمعنى هيهات أو مزيداً من الكرم.
2 - منتدى: مجلس القوم.
3 - الخبرة: العلم بالشيء
4 - الخيرة - بكسر الخاء وسكون الياء - المفضّل من القوم.
5 - الكد: الشدة.
6 - البهم - جمع بهمة -: الشجاع.
7 - حلب البلاد (خ ل).
8 - فورة الشرك (خ ل).
9 - خبت نيران الحرب (خ ل).
10 - أفتأخرتم بعد الإقدام (خ ل).
11 - وفي نسخة: وناكصتم بعد الشدة، وجبنتم بعد الشجاعة عن قوم نكثوا إيمانهم.
12 - سورة التوبة: آية 13.
13 - الخفض: الراحة.
14 - الدعة: خفض العيش.
15 - وفي نسخة: إلى السعة.
16 - مججتم: رميتم. ووعيتم: حفظتم.
17 - دسعتم: تقيأتم وتسوّغتم. شربتم بسهولة.
18 - خامرتكم: خالطتكم.
19 - استشعرتها: لبستها.
20 - فاض صدره بالسر: باح به.
21 - كالدم الذي يرمي به من الفم ويدل على القرحة.
22 - ضعف النفس عن التحمل.
23 - دونكموها: خذوها. دبرة: مقروحة.
24 - نقبة الخف: رقيقه.
25 - شنار: العيب العار.

(7)
جَوَابُ أبي بَكْر والاعتَراف بِفَضَائِل الإمام عليّ (عليه السلام)
إلى هنا ذكرت السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) ما كان ينبغي لها أن تذكر وأدَّت ما يجب، على أتم وأكمل ما يمكن، وهنا تصدَّى رئيس الدولة ليجيبها:
يا ابنة رسول الله!
لقد كان أبوكِ بالمؤمنين عطوفاً كريماً، رؤوفاً رحيماً
على الكافرين عذاباً أليماً وعقاباً عظيماً
إن عزوناه وجدناه أباكِ دون النساء(1)
وأخا إلفِكِ دون الأخلاَّء(2)
آثره على كل حميم(3)
وساعده في كل أمر جسيم
لا يحبّكم إلاّ كل سعيد
ولا يبغضكم إلاّ كل شقي
فأنتم عترة رسول الله الطيبون
والخيَرة المنتجبون
على الخير أدِلّتنا
وإلى الجنة مسالكنا
وأنت يا خيرة النساء
وابنة خير الأنبياء
صادقة في قولك
سابقة في وفور عقلكِ
غير مردودة عن حقكِ
ولا مصدودة عن صدقك(4)
والله ما عدوتُ رأي رسول الله!!!(5)
ولا عملت إلاَّ بإذنه
وإن الرائد لا يكذب أهله(6)
وإني أُشهد الله وكفى به شهيداً
أني سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول:
(نحن معاشر الأنبياء لا نورِّث ذهباً ولا فضة ولا داراً ولا عقاراً وإنما نورّث الكتاب والحكمة، والعلم والنبوة، وما كان لنا من طعمة فلولي الأمر بعدنا، أن يحكم فيه بحكمه).
وقد جعلنا ما حاولتِه في الكراع والسلاح(7)
يقاتل بها المسلمون
ويجاهدون الكفار
ويجالدون المردة الفجار(8)
وذلك بإجماع من المسلمين!!
لم أنفرد به وحدي
ولم أستبد بما كان الرأي فيه عندي(9)
وهذا حالي ومالي
هي لكِ، وبين يديك
لا تزوى عنكِ(10)
ولا تدَّخر دونكِ
أنت سيدة أُمّة أبيكِ
والشجرة الطيبة لبنيك
لا يُدفع مالَكِ من فضلكِ
ولا يوضع في فرعك وأصلكِ
حكمك نافذ فيما ملكت يداي
فهل ترينّ أن أُخالف في ذلك أباكِ (صلى الله عليه وآله)؟
شرح خطاب أبي بكر (عبد الله بن عثمان)
(يا ابنة رسول الله) سبحان الله! يعرفها ومع ذلك يكون موقفه ذلك الموقف.
(لقد كان أبوك بالمؤمنين عطوفاً كريماً، رؤوفاً رحيماً، على الكافرين عذاباً أليماً وعقاباً عظيماً) هذا كله واضح، وما المقصود من هذا الكلام.
(إن عزوناه وجدناه أباك دون النساء، وأخا إلفكِ دون الإخلاّء) هذا تصديق لكلامها في أول الخطبة حيث قالت: (فإن تعزوه وتعرفوه تجدوه أبي دون نسائكم وأخا ابن عمي دون رجالكم).
(آثره على كل حميم) أي فضّل رسول الله (صلى الله عليه وآله) علياً على كل قريب.
(وساعده في كل أمر جسيم) إن علياً ساعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) في كل أمر عظيم.
(لا يحبكم إلاّ كل سعيد، ولا يبغضكم إلاّ كل شقي) اعتراف عجيب من قائله، إن صح إسناد هذا الكلام إليه.
(فأنتم عترة رسول الله الطيبون، والخيرة المنتجبون) العترة التي لا يقبل كلامها ولا تمضي شهادتها في قطعة من الأرض، والخيرة التي تحمّلت أشد أنواع الأذى من الناس.
(على الخير أدلَّتنا) جمع دليل وهو الهادي أي أنتم الهداة المرشدون إلى الخير.
(وإلى الجنة مسالكنا) أنتم طرق النجاة والفوز بالجنة.
(وأنت - يا خيرة النساء، وابنة خير الأنبياء - صادقة في قولك) لو كنتَ تعتبرها صادقة فلماذا لم ترد إليها حقها؟ لماذا سلبتها أموالها التي جعلها الله ورسوله لها؟
(سابقة في وفور عقلك، غير مردودة عن حقك ولا مصدودة عن صدقك) فلماذا رددتها عن حقها أيها الرجل؟ ولماذا صددتها عن صدقها؟ ما هذا التناقض بين القول والفعل.
(والله ما عدوتُ رأي رسول الله) نعم، والله لقد عدوتَ رأي رسول الله.
(ولا عملتُ إلا بإذنه) لا والله ما عملتَ بإذنه، لم يأذن لك رسول الله أن تغضب النحلة التي أنحلها رسول الله ابنته فاطمة، أو تمنعها إرثها من أبيها.
(وإن الرائد لا يكذب أهله) هذا المثل في غير مورده.
(وإني أُشهد الله وكفى به شهيداً) عجباً لحلم الله! هكذا يستشهد به في الباطل؟ هكذا يتجرّأ عليه؟
(إني سمعت رسول الله يقول: نحن معاشر الأنبياء لا نورّث ذهباً ولا فضة ولا داراً ولا عقاراً، وإنما نورّث الكتاب والحكمة والعلم والنبوة، وما كان من طعمة فلِولي الأمر بعدنا أن يحكم فيه ما يحكمه). الله يقول: الأنبياء يورثون. ورسول الله يقول: الأنبياء لا يورثون؟ أيهما الصحيح؟ وبعد هذا: أنت المدعي وأنت الشاهد وأنت الحاكم؟ وهل يوجد في العالم حكم هكذا؟ أو قانون كهذا القانون؟
أنت سمعت رسولَ الله يقول هكذا وابنته لم تسمع ذلك منه؟
الرسول أخبرك وما أخبر ابنته التي كانت أراضي فدك بيدها وتحت تصرّفها؟
وأي كتاب ورَّثه الرسول؟ القرآن؟ القرآن كان ملكاً للرسول حتى يورِّثه؟ وهل النبوة تورث؟ وهل كان نبي إذا مات تنتقل النبوة إلى أولاده وورثته؟ ومن الذي ورث النبوة من رسول الله؟
وهل أنت ولي الأمر أم الذي ولىّ الله بقوله: (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون) من ولي الأمر بعد الرسول؟
أنت ولي الأمر، أم الذي بايعته أنت يوم غدير خم بأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) وسلّمت عليه بإمرة المؤمنين؟ وهو عليّ بن أبي طالب.
أترى أن تعلم هذا الحديث وعليّ بن أبي طالب لا يعلم؟ وهو أكثر التصاقاً وأشد اتصالاً والتزاماً بالرسول، حسب اعترافك، وهو باب مدينة علم الرسول.
وإن كان النبي لا يورّث فلماذا بقيتْ حجراته تحت تصرّف زوجاته؟
ولماذا لم تصادر تلك الحجرات؟ مع العلم أن تلك الحجرات كانت ملكاً لرسول الله (صلى الله عليه وآله) بصريح قوله تعالى: (لا تدخلوا بيوت النبي) فيتبين أن البيوت كانت للرسول، فبأي قانون شرعي وبأي مبرر ديني سكنت زوجات الرسول في تلك الحجرات إلى آخر حياتهن؟ ولماذا شمل التأميم السيدة فاطمة عزيزة رسول الله وبضعته ولم تشمل زوجاته.
(وقد جعلنا ما حاولتهِ في الكراع والسلاح يقاتل بها المسلمون، ويجاهدون الكفار، ويجالدون المردة الفجّار) وهل يجوز صرف الأموال المغصوبة في سبيل الله لتقوية المسلمين، وهل كانت جيوش المسلمين بحاجة إلى هذه الأموال التي أُخذت ظلماً؟
(وذلك بإجماع من المسلمين) ما قيمة هذا الإجماع المناقض لكتاب الله؟ وأي إجماع هذا وآل رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعترته لا يعترفون بهذا الأمر ولا يوافقون بهذه التصرفات؟ وهل ينفع الإجماع على الظلم وعلى مخالفة كتاب الله وسنة النبي؟
وكأن أبا بكر أراد بكلامه هذا استمالة قلوب المسلمين كي لا يخالفه أحد، وإلا فقد ثبت أن أبا بكر هو المدّعي الوحيد لحديث: (نحن معاشر الأنبياء لا نورّث) ولم يجمع المسلمون على صحة هذا الحديث المخالف لصريح كلام الله تعالى، نعم في كتاب (كشف الغمة): إنه لما ولّي عثمان قالت عائشة: أعطني ما كان يعطيني أبي وعمر. فقال عثمان: لا أجد لها موضعاً في الكتاب ولا في السنة، ولكن كان أبو بكر وعمر يعطيانك من حصة أنفسهما، وأنا لا أفعل فقالت: فآتني ميراثي من النبي (صلى الله عليه وآله) قال: أليس جئتِ وشهدتِ أنتِ ومالك بن أوس النضري أن النبي لا يورّث؟ فأبطلتِ حق فاطمة وجئتِ تطلبينه؟.. الخ.
أقول: العجب أن شهادة عائشة بنت أبي بكر تقبل وشهادة فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) لا تقبل، وشهادة مالك بن أوس النضري البوّال على عقبيه تقبل وشهادة أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب نفس رسول الله وأعز الخلق إليه لا تقبل ‍! اقرأ ثم احكم.
وبهذا اتضح لنا كلامه: (لم انفرد به وحدي، ولم أستبد بما كان الرأي فيه عندي) نعم، لم ينفرد به وحده، بل ساندته وشهدت له ابنته عائشة صاحبة المواقف المشهورة اتجاه فاطمة وزوجها عليّ.
(هذه حالي ومالي، هي لك وبين يديك، لا تزوي عنك ولا تدَّخر دونك) مجاملات فارغة لا حقيقة لها أصلاً، وما أكثر هذه المجاملات عند رجال السياسة.
(أنت سيدة أُمّة أبيك، والشجرة الطيبة لبنيك، لا يُدفع مالك من فضلك، ولا يوضع في فرعك وأصلك، حكمك نافذ فيما ملكت يداي) هذه الكلمات وإن كانت حقائق، إلاّ أنها استعملت للخداع، والتلوّن في الكلام، وسيأتيك - في المستقبل - كلام حول آراء السياسيين، والأساليب التي يستعملونها حسب الظروف.
(فهل ترين أن أُخالف في ذلك أباك (صلى الله عليه وآله)) أيها الناس! إن أبا بكر يجتنب مخالفة رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولكن سيدة نساء العالمين وبضعة رسول الله التي أذهب الله عنها الرجس وطهّرها تطهيراً تخالف رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟ هل يقبل عقلك؟ هل يرضى وجدانك بهذا؟
وأية مخالفة لرسول الله (صلى الله عليه وآله) إذا خضع المسلم للقرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه؟ هل العمل بآيات المواريث بين الأنبياء يعتبر مخالفة لرسول الله؟ وهل تصديق كلام بنت رسول الله المعصومة بصريح القرآن، وتصديق كلام زوجها عليّ الذي كان نفس رسول الله (صلى الله عليه وآله) يكون مخالفة لرسول الله؟
ماذا أقول إذا انقلبت المفاهيم، وانعكست الحقائق، وتبدّلت المقاييس وتغيّرت الموازين، وصار المنكر معروفاً والمعروف منكراً؟
الرجل يدّعي على رسول الله (صلى الله عليه وآله) كلاماً مخالفاً للقرآن، مناقضاً للشريعة الإسلامية، وآل رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعترته الطيبة لا يعترفون بهذا الكلام، بل يكذّبونه على ضوء القرآن، ثم يتورّع الرجل (على زعمه) من مخالفة ذلك الكلام المفترى على الرسول.
والآن استمع إلى ردّ السيدة فاطمة الزهراء لهذه المفتريات والأكاذيب.
1 - عزوناه: نسبناه.
2 - وفي نسخة: وأخا بعلك. والمعنى واحد.
3 - حميم: قريب.
4 - مصدودة: ممنوعة.
5 - عدوت: جاوزت.
6 - الرائد: الذي يتقدم القوم، يبصر لهم الكلأ ومساقط الثمار.
7 - الكراع - بضم الكاف -: جماعة الخيل.
8 - يجالدون: يضاربون.
9 - استبد: انفرد بالأمر من غير مشارك فيه.
10 - تزوى عنك: تقبض عنك.

(8)
جوَاب فَاطِمَة الزهْرَاء (عليها السلام).. مُطَابَقَة كلِمِات الرسُول مَعَ القرآن
قالت (عليها السلام):
سبحان الله
ما كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن كتاب الله صادفاً(1)
ولا لأحكامه مخالفاً
بل كان يتَّبع أثره
ويقفو سُوَره(2)
أفتجمعون إلى الغدر اعتلالاً عليه بالزور
وهذا بعد وفاته شبيهٌ بما بُغي له من الغوائل في حياته(3)
هذا كتاب الله حَكَماً عدلاً
وناطقاً فصلاً
يقول:
(يرثني ويرث من آل يعقوب)
(وورث سليمان داود)
فبيَّن (عز وجل) فيما وزَّع عليه من الأقساط
وشرع من الفرائض والميراث
وأباح من حظ الذكران والإناث
ما أزاح علَّة المبطلين
وأزال التظني والشبهات في الغابرين(4)
كلاَّ، (بل سوَّلت لكم أنفسكم أمراً فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون).
شرح جوابها (عليها السلام) لأبي بكر
قالت: (سبحان الله) في مقام التعجّب، استعظاماً لهذا الافتراء على رسول الله (صلّى الله عليه وآله) الصادق المصدق الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى.
(ما كان رسول لله (صلى الله عليه وآله) عن كتاب الله صادفاً) ما كان الرسول معرضاً عن كتاب الله المجيد (ولا لأحكامه مخالفاً) بأن يقول شيئاً يخالف القرآن، وحديث: (نحن معاشر الأنبياء لا نورِّث..) مخالف للآيات التي تصرّح بوراثة الأنبياء، وإنهم يرثون ويورثون.
حاشا نبي الله أن يخالف كلام الله (بل كان يتبع أثره) يسير مع القرآن وعلى ضوء القرآن وتحت ظلاله.
(ويقفو سوره) أي سور القرآن، ويتبعها سورة بعد سورة فكيف يقول شيئاً يخالف كلام الله، ويناقض أحكام الله؟
(أفتجمعون إلى الغدر اعتلالاً عليه بالزور) تقول السيدة فاطمة (عليها السلام) قد جمعتم بين جريمتين: جريمة الغدر وهي غصب فدك، وجريمة الكذب على رسول الله (صلى الله عليه وآله) أي هل تضيفون إلى الغدر اعتذاركم على العذر بالكذب، وهذا كمن يقتل إنساناً ظلماً ثم يعتذر من عمله بأن المقتول كان سارقاً، فهو قد جمع بين جريمة القتل وجريمة الكذب والافتراء.
(وهذا بعد وفاته شبيه بما بُغي له من الغوائل في حياته) تقول (عليها السلام) ليس هذا بشيء جديد، فإن القيام ضد آل الرسول بعد وفاته يشبه المؤامرات والنشاطات المسعورة التي كانت ضده في حياته، فلقد أراد المنافقون أن يقتلوا رسول الله (صلى الله عليه وآله) ليلة العقبة، ويُنفروا ناقته على شفير الوادي لتسقط ناقة النبي في الوادي فيهلك رسول الله والتفصيل مذكور في محله، راجع تفسير قوله تعالى: (يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم وهموا بما لم ينالوا..) سورة التوبة؛ الآية: 74.
(هذا كتاب الله حكماً عدلاً وناطقاً فصلاً) هذا القرآن حال كونه حاكماً عادلاً، ناطقاً قاطعاً للخصومات، نجعله مرجعاً نتحاكم إليه. هذا القرآن يقول: (.. يرثني ويرث من آل يعقوب) في قصة زكريا وقد مر الكلام حول الآية، (وورث سليمان داود) قد ذكرنا ما تيسر أيضاً حول وراثة سليمان من داود (عليهما السلام).
وأنتم تقولون: إن رسول الله قال: (نحن معاشر الأنبياء لا نورِّث) كيف يخالف رسول الله القرآن؟ وكيف يعرض عن حُكم وراثة الأنبياء.
(فبيَّن عز وجل فيما وزّع عليه من الأقساط) لقد بين الله تعالى فيما قسّم من نصيب كل من الورثة، (وشرع من الفرائض والميراث) الفرائض: هي الحصص المفروضة المقدّرة للورثة كالنصف والثُلث والرُبع والسُدس والثُمن كما هو مذكور في الكتب الفقهية.
(وأباح من حظ الذكران والإناث) في شتى مراتب الورثة من الزوج والزوجة والأب والأم والأولاد والبنات والمراتب المتأخرة عنهم (ما أزاح علَة المبطلين) لقد بيَّن الله في القرآن وشرع وأباح ما فيه الكفاية لإزالة أمراض أهل الباطل، وكل من جاء بالباطل.
(وأزال التظني والشبهات في الغابرين) لم يبق مجال للشك والشبهة لأحدٍ من الأجيال الموجودة أو الآتية.
(كلاَّ) ليس الأمر كما تقولون، أو كما تدَّعون، وليس الأمر ملتبساً عليكم، (بل سوّلت لكم أنفسكم أمراً) بل زيّنت لكم أنفسكم حُبُّ الرئاسة وكرسي الحكم، ومنصة القدرة، فنسبتم إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) هذا الحديث حتى يتحقق هدفكم، وتنالوا غايتكم.
(فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون) نصبر ونستعين بالله تعالى على تحمّل هذه المآسي والمصائب.
والآن استمع إلى دفاع أبي بكر عن نفسه، وانتبه إلى تبدّل الكلام، وتذبذب المنطق، وتغيّر الأسلوب، وعدم الاهتمام بالتناقض في الكلام.
1 - صادفاً: معرضاً: يقال: صدف عن الحق إذا أعرض عنه.
2 - يقفو: يتبع.
3 - الغوائل - جمع غائلة -: الحادثة المهلكة.
4 - التظني: إعمال الظن. الغابرين: الباقين.

(9)
جَوَابُ أبي بَكْر
لما زيّفت السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) الحديث الذي اختلقه أبو بكر ونسبه إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأبطلت ذلك الادّعاء بالأدلة القاطعة والحجج الساطعة، عجز أبو بكر عن تفنيد الحجج والبراهين التي استدلت بها السيدة فاطمة. ولهذا دخل من باب آخر، كي لا يتحمل المسؤولية هو وحده، بل تكون المسؤولية على المسلمين الذين وافقوا على تصرفاته، فقال:
صدق الله وصدق رسوله
وصدقت ابنته
أنتِ معدن الحكمة
وموطن الهدى والرحمة
وركن الدين
وعين الحجة
لا أُبعدُ صوابكِ
ولا أنكر خطابكِ
هؤلاء المسلمون بيني وبينك
قلَّدوني ما تقلّدت
وباتفاق منهم أخذتُ ما أخذت
غير مكابر ولا مستبد
ولا مستأثر
وهم بذلك شهود
شرح هذا الجواب
قال أبو بكر: (صدق الله وصدق رسوله وصدقت ابنته) تصديق لآيات المواريث بين الأنبياء، وتصديق للرسول الذي لا يخالف القرآن وكأنه ينسحب عن الحديث الذي نسبه إلى النبي (نحن معاشر الأنبياء لا نورث) وتصديق لكلام بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله).
(أنت معدن الحكمة، وموطن الهدى والرحمة، وركن الدين وعين الحجة) اعترافات عجيبة تدل على التنازل والانسحاب (لا أُبعدُ صوابك ولا أُنكر خطابكِ) إقرار بصواب قولها، واعتراف بصدق خطابها وكلامها، ولكن كله صوريّ أي باللسان لا بالعمل فالزهراء صادقة القول في ادّعائها فدك، لا يشك أحد في ذلك ولكن السلطة المعترفة بصدق كلامها لا تردّ إليها حقوقها، لماذا؟ وكيف؟
(هؤلاء المسلمون الحاضرون بيني وبينك هم قلدوني الخلافة) وهذا اعتراف صريح منه أنه لم يصل إلى الخلافة بالنص والتعيين من رسول الله (صلى الله عليه وآله) وإن رسول الله لم يستخلفه، بل المسلمون قلّدوه الخلافة.
(وباتفاق منهم أخذت ما أخذت) أنظر إلى تبدّل المنطق فقد قال أولاً: إنه استولى على فدك عملاً بقول الرسول (صلى الله عليه وآله): (نحن معاشر الأنبياء.. الخ)، وبعد أن أبطلت السيدة فاطمة هذا الكلام تشبث بوسيلة أخرى، وهي اتفاق المسلمين على غصب فدك.
مَن هم المسلمون الذين اتفقوا على أخذ أبي بكر فدك؟
بنو هاشم، أهل بيت رسول الله (صلى الله عليه وآله)، رؤساء الصحابة أمثال: سلمان والمقداد وعمار وأبي ذر ونظرائهم؟
إن كلمة: (وباتفاق منهم أخذت ما أخذت) هي عبارة عن كلمته السابقة: (وذلك بإجماع المسلمين) وقد ذكرنا قيمة ذلك الإجماع وقس عليها قيمة هذا الاتفاق منهم على أخذ فدك فاطمة.
(غير مكابر ولا مستبد ولا مستأثر وهم بذلك شهود) حينما استشهد أبو بكر بالمسلمين كان لزاماً على السيدة فاطمة أن توجّه عتاباً لاذعاً إليه:

(10)
فاطِمَةُ الزهْرَاء تُوجّهُ الخِطَابَ إلى الحَاضِرين
في عِتَابِهَا مَعَ المُتَخَاذِلين
وجهت السيدة فاطمة عتابها الأخير إلى تلك الجماهير المتجمهرة التي كانت تستمع إلى ذلك الحوار الحادّ فقالت:
معاشر الناس
المُسرعة إلى قيل الباطل
المُغضية على الفعل القبيح الخاسر(1)
أفلا تتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها؟
كلا، بل ران على قلوبكم ما أسأتم من أعمالكم
فأخذ بسمعكم وأبصاركم
ولبئس ما تأوّلتم
وساء ما به أشرتم
وشر منه اعتضتُّم(2)
لتجدنَّ - والله - محمله ثقيلاً
وغبَّه وبيلاً(3)
إذا كشف لكم الغطاء وبان ما وراءه الضرّاء
وبدا لكم من ربكم ما لم تكونوا تحتسبون، وخسر هنالك المبطلون.
شرح الخطاب
(معاشر الناس المسرعة إلى قيل الباطل) أي القول الباطل، أي أسرعتم إلى قول باطل إذ أنكم قلّدتم هذا الرجل ما قلّدتم، واتفقتم معه - حسب ادعائه - على غصب حقوقي.
(المغضية على الفعل القبيح الخاسر) الإغضاء هو إدناءِ الجفون على العين، كالذي ينظر إلى الأرض أو ينظر في حِجره، كناية عن السكوت والرضا بالفعل القبيح الخاسر الذي هو سبب خسران صاحبه.
(أفلا تتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها؟) هل نسيتم الآيات النازلة فينا؟ أو لم تفهموا الآيات التي تلوتها في وراثة الأنبياء؟ أم قلوبكم مقفلة مغلقة فلا تنفتح لكلام الله وأحكامه في القرآن؟
(كلاَّ) ليس السبب عدم التدبر في القرآن (بل ران على قلوبكم ما أسأتم من أعمالكم) أي غلب على قلوبكم وغطّاها سوء أعمالكم كالحجاب الكثيف، كما تغطّي الخمرة عقل شاربها فلا يفهم ولا يشعر، وتختل عنده الأمور.
(فأخذ بسمعكم وأبصاركم) كالغفلة المستولية على القلب، المؤثّرة على السمع والبصر، فلا يسمع الغافل الصوت ولا يبصر الشيء بسبب انشغال قلبه وغفلته.
(ولبئس ما تأوَّلتم) في آيات القرآن وأحكام الإسلام وتغييرها عن مجراها الحقيقي (وساء ما به أشرتم) تقصد التعاون والاتفاق على غصب حقوق آل محمد (عليهم السلام).
(وشرّ ما منه اعتضتم) أي ساء ما أخذتم به عوضاً عما تركتم أي بئس الباطل الذي أخذتموه عوضاً عن الحق، وكلها كنايات وإشارات يفهمها الأذكياء.
(لتجدَّن - والله - محمله ثقيلاً وغبّه وبيلاً) إشارة إلى المسؤولية الكبرى يوم القيامة، والحمل الثقيل والأمر الشديد الذي يعاقبون عليه أشد العقاب، ويعذّبون عليه أشد العذاب.
(إذا كشف لكم الغطاء) إذ متّم وانتقلتم إلى عالم الجزاء.
(وبان ما وراءه الضرّاء) وظهر لكم الشيء الذي وراءه الشدّة.
(وبدا لكم من ربكم ما لم تكونوا تحتسبون، وخسر هنالك المبطلون) وهكذا أدمجت السيدة فاطمة حديثها وخطابها مع الآيات المناسبة للمقام.
لقد أتمت السيدة فاطمة الحجة على الجميع، وأدّت ما عليها من الواجبات، وسجلت آلامها في سجل التاريخ والآن:
ثم عطفت على قبر أبيها رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقالت:
قد كــــان بعــدك أنـــــــباء وهنبثة(4) لو كنــــت شاهدها لم تكثر الخطبُ(5)
إنا فقدناك فــــقدَ الأرض وابلــــــها(6) واختل قومك فاشهدهم وقد نكبوا(7)
وكل أهل لــــــــه قُـــــربى ومنــــــزلة عند الإلـــــه علـــــــــى الأدنين مقتربُ
أبدَتْ رجـال لـــــنا نجوى صدورهم(8) لما مضيتَ وحـــــــالت دونـــــك التُّربُ
تجهّمـتنا رجـــــــال واستُـــــــــخفّ بنا لما فُقــــدتَ، وكل الإرث مغتصَبُ(9)
وكنتَ بــــــــدراً ونـــــوراً يُستضاء به عليك تنـــــــزل مـــــن ذي العزّة الكتبُ
وكان جــــــــبريل بالآيات يــــــــؤنسنا فقد فُقدتَ، فكـــــــلّ الخـــــــير مُحتجبُ
فليتَ قبلكَ كــــــــان المــــــوت صادَفَنا لمّا مضــــيت وحالت دونك الكُثُبُ(10)
إنا رُزينا بما لـــــــــم يُرزَ ذو شَجَن(11) مِن البريــــــــة لا عجـــــــــم ولا عربُ
وفي ناسخ التواريخ زيادة هذه الأبيات:
سيعــــــلم المتـــــــولي ظلم حامتنا يوم القيامة أنّــــــى ســـــوف ينقلبُ
وسوف نبكـــيك ما عشنا وما بقيت له العـــــــيون بتهـــــــمال له سكبُ
وقد رزُينا بـــــه محــــــضاً خليقته صافي الضـرائب والأعراق والنسبُ
فأنت خـــــــــير عبـــــــاد الله كلهم وأصدق الناس حين الصدق والكذبُ
وكان جــــبريل روح القدس زائرنا فغاب عـــــــنا فــــكل الخير محتجبُ
ضاقت علــــيَّ بلادٌ بعـــــدما رحبتْ وسيــم سبطاك خسفاً فيه لي نَصَبُ
وفي كشف الغمة وغيره: ثم عطفت على قبر رسول الله (صلى الله عليه وآله) فتمثّلت بقول هند بنت أثاثة: قد كان بعدك.. الخ.
وقيل هذه الأبيات لهند بنت أبان بن عبد المطلب تمثلت بها السيدة فاطمة، وعلى كلٍ فقد ألقت السيدة فاطمة نفسها على قبر أبيها وهي تنشد هذه الأبيات.
وفي كشف الغمة: فما رأينا أكثر باك ولا باكية من ذلك اليوم.
1 - المغضية: الساكتة الراضية.
2 - اعتضتّم: من الاعتياض وهو أخذ العوض.
3 - الغبّ - بكسر الغين -: العاقبة. الوبيل: الشديد الثقيل.
4 - الهنبثة: الأمر الشديد المختلف.
5 - الخطب - بضم الخاء والطاء - جمع خطب - بفتح الخاء - وهي المصائب الشديدة.
6 - الوابل: المطر الغزير الكثير.
7 - نكبوا: عدلوا عن الطريق.
8 - نجوى - هنا -: الأحقاد.
9 - مغتصب: مغصوب.
10 - الكثب - بضم الكاف والثاء - جمع كثيب وهو الرمل.
11 - رزينا: من الرزية وهي المصيبة. والشجن: الحزن.

(11)
خطبَةُ الزّهرَاء في نِساء المُهاجِرِينَ وَالأنصَار
قال سويد بن غفلة:
لما مرضت فاطمة (عليها السلام) المرضة التي توفّيت فيها
اجتمع إليها نساء المهاجرين والأنصار يَعُدْنَها
فقلن لها: كيف أصبحتِ من علَّتك يا ابنة رسول الله؟
فحمدت الله، وصلّت على أبيها، ثم قالت:
أصبحتُ - والله - عائفةً لدنياكنَّ(1)
قاليةً لرجالكن(2)
لفظتُهم بعد أن عجمتهم(3)
وشنئتهم بعد أن سَبَرتهم(4)
فقبحاً لفلول الحد(5)
واللعب بعد الجدّ(6)
وقرع الصفاة، وصدع القناة(7)
وخطل الآراء، وزلل الأهواء(8)
وبئس ما قدَّمت لهم أنفسهم
أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون(9)
لا جرَمَ لقد قلّدتهم ربقتها(10)
وحمّلتهم أوقتها(11)
وشننت عليهم عارها(12)
فجدعاً وعَقراً وسُحقاً للقوم الظالمين(13).
ويحهم!!
أنّى زحزحوها عن رواسي الرسالة(14)
وقواعد النبوة والدلالة(15)
ومَهبط الروح الأمين(16)
والطبين بأُمور الدنيا والدين(17)
إلا: ذلك هو الخسران المبين
وما الذي نقموا من أبي الحسن(18)
نقموا منه - والله - نكير سيفه(19)
وقلَّة مبالاته بحتفه(20)
وشدّة وطأته ونكال وقعته(21)
وتنمّره في ذات الله عز وجل(22)
والله لو تكافّوا عن زمام نَبَذَه رسول الله إليه لاعتلقه(23)
ولَسارَ بهم سيراً سُجُحاً(24)
لا يكلم خشاشُه(25)
ولا يتعتع راكبه(26)
ولأوردهم منهلاً نميراً، صافياً روّياً، فضفاضاً تطفح ضفّتاه، ولا يترنق جانباه(27)
ولأصدرهم بِطاناً(28)
ونصح لهم سرّاً وإعلاناً
ولم يكن يحلى من الغنى بطائل(29)
ولا يحظى من الدنيا بنائل(30)
غير ريِّ الناهل(31)
وشبعة الكافل(32)
ولَبَانَ لهم الزاهد من الراغب
والصادق من الكاذب
(ولو أنَّ أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذّبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون)(33).
(والذين ظلموا من هؤلاء سيصيبهم سيئات ما كسبوا وما هم بمعجزين)(34).
إلا: هلمَّ واستمع.
وما عشتَ أراك الدهر عجباً!
وإن تعجب فعجبٌ قولهم!!
ليت شعري إلى أيّ سِناد استندوا؟(35)
وعلى أي عماد اعتمدوا؟
وبأيَّة عروة تمسَّكوا؟
وعلى أيَّة ذريَّة أقدموا واحتنكوا؟(36)
لبئس المولى ولبئس العشير.
وبئس للظالمين بَدَلاً.
استبدلوا - والله - الذُّنابا بالقوادم(37)
والعَجُز بالكاهل(38)
فرغماً لمعاطس قوم يحسبون أنهم يحسنون صُنعاً(39)
ألا: إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون
ويحهم!!
(أفمن يهدي إلى الحق أحقُّ أن يُتَّبَع أم من لا يَهدي إلاّ أن يُهدى فما لكم كيف تحكمون؟)(40)
أما: لعمري! لقد لقحتْ(41)
فَنَظِرة ريثما تُنتج(42)
ثم احتبلوا ملء القعب دماً عبيطاً(43)
وذعافاً مبيداً(44)
هنالك يخسر المبطلون
ويعرف التالون غبّ ما أسَّسه الأولون(45)
ثم طيبوا عن دنياكم أنفساً(46)
واطمئنوا للفتنة جاشا(47)
وأبشروا بسيف صارم
وسطوةِ معتد غاشم(48)
وهرج شامل(49)
واستبداد من الظالمين(50)
يَدَع فيئكم زهيداً(51)
وجمعكم حصيداً(52)
فيا حسرةً لكم(53)
وأنّى بكم؟(54)
وقد عميت عليكم(55)
أنُلزِمكموها وأنتم لها كارهون؟؟
قال سويد بن غفلة: فأعادت النساء قولها على رجالهن.
فجاء إليها قوم من وجوه المهاجرين والأنصار معتذرين، وقالوا: يا سيدة النساء.
لو كان أبو الحسن ذكر لنا هذا الأمر من قبل أن نبرم العهد(56)
ونُحْكِم العقد لما عَدَلنا إلى غيره!!!
فقالت: إليكم عني!
فلا عذر بعد تعذيركم، ولا أمر بعد تقصيركم(57).
عيَادَةُ النِّساء لِفَاطمِة الزهْراء (عليها السلام)
لا نعلم - بالضبط - السبب الحقيقي والدافع الأصلي الذي دعا بنساء المهاجرين والأنصار لعيادة السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام)، فهل كان هذا بإيعاز من رجالهن فما الذي دعا أولئك الرجال لإرسال نسائهن إلى دار السيدة فاطمة؟
أو هل حصل الوعي عند النساء وشعرن بالتقصير بل الخذلان لبنت رسول الله، فانتشر هذا الشعور بين النساء فأنتج ذلك حضورهن للعيادة للمجاملة أو إرضاء لضمائرهن المتألمة لما حدث وجرى على سيدة النساء؟
أو كانت هناك أسباب سياسية فرضت عليهن ذلك فحضرن لتلطيف الجو وتخفيف توتر العلاقات بين السيدة فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) وبين السلطة الحاكمة في ذلك اليوم؟
خاصة وأن الموقف الاعتزالي الذي اختارته السيدة فاطمة لنفسها، وانسحابها عن ذلك المجتمع لم يكن خالياً عن التأثير، بل كان جالباً لانتباه الناس، وبالأخص حين حمل الإمام أمير المؤمنين السيدة فاطمة يطوف بها على بيوت المهاجرين والأنصار تستنجد بهم وتستنهضهم فلم تجد منهم الإسعاف بل وجدت منهم التخاذل، وقد مرّت عليك نتيجة الحوار الذي جرى بين السيدة فاطمة الزهراء وبين معاذ بن جبل، وعرفت موقف ابنه من ذلك الرد السيئ.
وعلى كل تقدير فلا يعلم - أيضاً - عدد النساء اللاتي حضرن عند السيدة فاطمة الزهراء وهي طريحة الفراش، ولكن المستفاد أن العدد لم يكن قليلاً بل كان العدد كثيراً يعبأ به.
فانتهزت السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) الفرصة، واستغلّت اجتماع النساء عندها لأن تضع النقاط على الحروف، وتكتب في سجل التاريخ الأعمال البشعة التي قام بها بعض المسلمين تجاه عترة نبيهم وذريته الطاهرة.
والنساء يشكلّن نصف المجتمع أو أكثر من النصف، وكل امرأة مرتبطة برجلٍ من زوج أو أب أو أخ أو ابن، فهي بإمكانها أن تقوم بدورٍ فعّال في المجتمع وخاصة في حقل الدعاية والإعلام والنشر.
فلماذا تسكت السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) في هذا الاجتماع ولماذا لا تذكر استياءها من أولئك المتطرفين؟
(قلن لها: كيف أصبحتِ من علتّكِ يا ابنة رسول الله؟) هكذا جرت العادة والآداب أن العائد يسأل المريض عن صحته وعّلته، فيجيبه المريض عما يشعر به من المرض والألم، ولكن السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) لم تجبهن عن مرضها وتدهور صحتها، بل أجابتهن عن آلامها النفسية، ومصائبها الشخصية فالتحدث عن هذه الأمور أولى وأوجب من التحدث عن أحوالها الصحية لأن لتلك المصائب هي التي جرَّت العلّة والمرض إلى السيدة فاطمة وسلبتها العافية والصحة، فالتحدث عن السبب أولى من التحدث عن المسبب والإخبار عن العلة أفضل من الإخبار عن المعلول.
وهنا أجابت السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) على أسئلة النسوة كما تقتضي الحال، لا تتعجب إن كانت السيدة فاطمة ما نسيت أصول الفصاحة والبلاغة والأدب الرفيع والمستوى الأعلى بسبب انحراف صحتها بل قالت:
فاطِمةُ الزهْرَاءُ تَضَعُ النقَاطَ عَلَى الحرُوف
(أصبحتُ - والله - عائفة لدنياكن) نعم، إنها تبدي تنفرّها عن الحياة الدنيا وكراهتها لذلك المجتمع الذي لا يؤمن بالقيم.
(قالية لرجالكن) ويحقّ لها أن تبدي اشمئزازها وغضبها على رجال المدينة، الذين كان موقفهم تجاه السيدة فاطمة الزهراء موقفاً غير طيب، فلقد مرَّ عليك أنهم أبدوا انزعاجهم من بكاء السيدة فاطمة الزهراء على فقد أبيها الرسول (صلى الله عليه وآله) ولم يتجاوبوا معها في إسعافها والوقوف معها.
(لفظتهم بعد أن عجمتهم) أي رميتهم من فمي بعد أن عضضتهم، كما يرمي أحدنا اللقمة من فمه ويشمئز منها.
(وشنئتهم بعد أن سبرتهم) أي أبغضتهم ومللتهم بعد أن اختبرتهم، وكرهتهم بقلبي بسبب سوء تصرفاتهم.
(فقبحاً لفلول الحد) شبّهت السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) رجال أهل المدينة بالسيف الذي انثلم حدّه فلا يقطع، إشارة إلى قعودهم عن نصرتها، وخذلانهم إياها، فكأنها (عليها السلام) تستقبح فيهم سكوتهم عما جرى على بنت نبيهم من الظلم والاضطهاد.
(واللعب بعد الجد) والمقصود: عدم المبالاة بالحق بعد اهتمامهم بذلك، فإنهم كانوا جادّين في نصرة الإسلام، ولكن الآن صاروا وكأنهم يلعبون ألعاباً سياسية.
(وقرع الصفاة) والمراد: التذلل والانقياد لكل مَن قادهم:
(وصدع القناة) وفي نسخة: (خور القناة) إشارة إلى استرخاء الرمح بسبب انشقاقه، وينبغي أن يكون الرمح صلباً حتى يمكن الطعن به، وإذا كان الرمح رخواً لا يمكن أن يُطعن به.
(وخطل الآراء) وفي نسخة: (أفول الرأي) وفي نسخة أخرى: (خطل القول) وعلى كل تقدير فهو إشارة إلى انحراف آرائهم وفسادها، وشذوذ مواقفهم السلبية، والإيجابية.
أما مواقفهم السلبية فهي تجاه أهل بيت نبيهم (عليهم السلام) وعدولهم عن أهل البيت إلى غيرهم، وأما الإيجابية فاعترافهم بالسلطة المناوئة لآل الرسول.
(وزلل الأهواء) ما أقبح تلك الرغبات المنحرفة التي لعبت بمقدرات المسلمين على مرّ التاريخ وعلى مرّ القرون، وتلك العثرات المنبعثة عن اتباع الأهواء الضالة المضلة، ومن مشتهيات الأنفس.
(ولَبئْسَ ما قدَّمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون) هذه الآية من سورة المائدة آية (80) وقبلها: (لُعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون ترى كثيراً منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون) إنها (عليها السلام) أدمجت هذه الآية في حديثها للمناسبة بين الموردين، ويظهر وجه المناسبة بالمقارنة بين الآيات وبين موقف أولئك المتخاذلين.
(لا جرم لقد قلّدتهم ربقتها) أنها (عليها السلام) تلقي المسؤولية مسؤولية الأجيال كلها على أعناق أولئك الأفراد، إذ أنها لما حضرت في المسجد وخطبت، وأتمت الحجة على الحاضرين واستنجدت بالمهاجرين والأنصار فثبت التكليف الشرعي في حقهم، وحيث أنهم لم ينصروها فهم مسؤولون عن مضاعفات ذلك الخذلان أمام الله وأمام التاريخ.
(وحمَّلتهم أوقتها) أي حمّلتهم ثقل المسؤولية وشومها.
(وشننت عليهم عارها) شننت الماء على التراب: أرسلته وصببته بصورة متفرقة، وفي نسخة: (سننت) أي صببت بصورة متصلة غير متفرقة، وعلى كل تقدير فالمعنى، أن عليهم سبّة التاريخ وعاره للأبد بسبب ذلك الجفاء الذي أبدوه تجاه أهل البيت.
(فجدعاً وعقراً وسحقاً للقوم الظالمين) وفي نسخة أخرى: (فجدعاً وعقراً وبُعداً) هذه كلمات دعاء عليهم بسبب ظلمهم لآل الرسول، والظلم: وضع الشيء في غير ما وضُع له، والظلم على درجات ومراتب، فهناك الظلم بالنملة وهناك الظلم بالأمة الإسلامية عبر التاريخ، والظلم بأولياء الله الذين يرضى الله لرضاهم، ويغضب لغضبهم.
ويستحق الظالمون أن يدعى عليهم بالجدع والعقر والبُعد، فيقال: جدعهم الله جدعاً وعقرهم الله عقراً، ومعناهما: قطع الله أيديهم وآذانهم وشفاهم وجرح الله أبدانهم.
(ويحهم) ويح: كلمة تستعمل في مقام التعجب، وقد يكون معناها الويل.
(أنَّى زحزحوها عن رواسي الرسالة؟) وفي نسخة: (زعزعوها) تتعجب (عليها السلام) من سوء اختيارهم، أي كيف نحوّا خلافة رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن مواضعها الثابتة التي هي بمنزلة الجبال لحركة الأرض وسيرها بصورة منظمة وحفظها من الاضطراب.
(وقواعد النبوة) القواعد: جمع قاعدة وهي - هنا - الأساس للبناء، فكما أن البناء إذا بني على غير أساس ينهدم فكذلك الخلافة إذا وُضعت في غير موضعها اللائق بها تنهار معنوياً، ويختل نظامها، وتضطرب أركانها.
(ومهبط الروح الأمين) كان جبرئيل يهبط في بيت رسول الله (صلى الله عليه وآله) وبيوت أهل بيته، وبيت فاطمة مهبط الروح الأمين.
(والطبين بأمر الدنيا والدين) الفطن الحاذق بأمور الدنيا المتعلقة بالحياة وكذلك القضايا المتعلقة بالدين في جميع المجالات وشتى الأحكام، وتقصد بذلك أهل بيت الرسول (عليهم السلام) وتخص زوجها الحكيم العظيم الإِمام أمير المؤمنين (عليه السلام).
(ألا: ذلك هو الخسران المبين) أي والله، خسران واضح خسرته الأمة الإِسلامية في جميع مجالات حياتها من الحياة الفردية والزوجية والعائلية والاجتماعية والاقتصادية والصحية والسياسية والعمرانية والدينية والدنيوية والأخروية.
كل ذلك حين سلبت الأمةُ السلطةَ والقدرةَ من أهل بيت الرسول، وتصرّف في القيادة الإِسلامية أفراد كانوا هم والإِسلام على طرفي نقيض، إذ كان الإِسلام شيئاً آخر.
فكانت إراقة الدماء البريئة أسهل وأهون عندهم من إراقة الماء.
والتلاعب بالأحكام الإِلهيّة والقوانين الإِسلامية كالتلاعب بالكرة وغيرها من الألاعيب.
إن المآسي التي شملت الأمة الإِسلامية (عبر التاريخ) مما تقشعرّ منها الجلود، وتضطرب منها القلوب، كل ذلك من جرّاء القيادة غير الرشيدة التي تسلّمها أفراد من هذه الأمة.
وليس في هذا الكتاب مجال لاستعراض تلك المجازر الجماعية، والمذابح المؤلمة التي قام بها بعض حكام المسلمين على مر التاريخ الإِسلامي.
فقد ستروا الكرة الأرضية بقشرة من المقابر التي ضمّت الآلاف المؤلفة من النفوس البريئة التي كانت ضحايا لأَهواءِ أفراد، وفداءً لكراسيهم ومناصبهم وملذاتهم وأما الكبت والاضطهاد والحرمان والجوع والبؤس الذي ساد العباد والبلاد فحدّث ولا حرج.
نعم، هذا هو الخسران المبين، ولا يزال الحبل ممدوداً حتى اليوم وبعد اليوم.
(وما الذي نقموا من أبي الحسن؟ أي: أيَ شيء عابوه من الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب حتى نحوّه عن السلطة، وقدّموا غيره عليه؟
أنقصاً في العلم؟
أو جهلاً في الفتيا؟
أو سوءاً في الخلق؟
أو عاراً في الحسب؟
أو ضعفاً في الدين؟
أو عدم كفاءة في الأمور؟
أو جبناً في النفس؟
أو خِسّةً في النسب؟
أو قلّة في الشرف؟
أو بخلاً بالمال؟
أو أي عيب في مؤهلاته وكفاءاته؟
كل ذلك لم يكن، بل كان علي (عليه السَّلاَم) أعلم هذه الأمة جمعاء، وهو باب مدينة علم الرسول وأقضاهم في الفتوى.
وأشبه الناس خلقاً بالرسول الذي كان على خلق عظيم.
وابن شيخ الأَباطح: أبي طالب، مؤمن قريش.
وأعبد الناس في هذه الأمة.
وأشجعهم نفساً، وأقواهم قلباً، وأكثرهم جهاداً.
وكتلة من الفضائل.
وفي أوج الشرف والعظمة.
وأسخاهم كفاً، وأبذلهم للمال.
إذن فما هو السبب في صرف الخلافة عنه إلى غيره؟
إن السيدة فاطمة (عليها السلام) تجيب على هذا السؤال، وتقول:
(نقموا منه - والله - نكير سيفه) أي عابوا شدّة سيفه، والمقصود أن علياً كان قد قتل في الحروب والغزوات رجالات هؤلاء وأسلافهم، وحطّم شخصياتهم، فكانوا يكرهونه بسبب سيفه الخاطف للأرواح.
(وقلة مبالاته بحتفه) أي عدم اهتمامه واكتراثه بالموت، فالمجاهد الذي ينزل إلى جبهة القتال ينبغي أن يكون قليل المبالاة بالموت، فكما أنه يَقتل كذلك بُقتل، وكان علي (عليه السلام) يقول: واللَّه لا يبالي ابن أبي طالب أوقَع على الموت أو وقع الموت عليه.
(وشدِّة وطأتهُ ونكال وقعته) يقال: فلان شديد الوطأة أي شديد الأخذ وشديد القبض، والمقصود قوة العضلات ومعرفة القتال، ونكال الوقعة أي كان يصنع صنيعاً يحذَّر غيره ويجعله عبرة له، أي كانت ضربته وصدمته للأعداء نكالاً أي يورث الحذر والعبرة للآخرين.
(وتنمّره في ذات اللَّه عز وجل) النمر شديد الغضب، إذا غضب لنفسه لم يبال: قلّ الناس أم كثروا، ولا يردّه شيء، ولا يحول دون هدفه حائل ولا يمنعه مانع، والرجل الشجاع الذي يجاهد بلا مبالاة ولا خوف، بل بكل غضب وشجاعة يقال في حقه: تنمّر، أي صار شبيهاً بالنمر في الاقتحام.
لقد تخلص من كلامها (عليها السلام) أن سبب انحراف الناس عن علي (عليه السلام) كان لأغراض شخصية، وأمراض نفسية متأصلة في قلوبهم.
فلقد قتل علي (عليه السلام) يوم بدر وأُحد وحنين والخندق وغيرها عدداً كبيراً لا يستهان به من أقطاب الشرك، ورجالات الكفر، وشخصيات الجاهلية، أمثال: عتبة وشيبة والوليد وعمرو بن عبد ودّ وعقبة بن الوليد وغيرهم، وأكثر قبائل العرب كانت موتورة بسيف علي (عليه السلام).
وحتى، وبعد أن أسلمت تلك القبائل كانت رواسب الحقد والعداء كامنة في نفوسهم.
والنجاح الكبير الذي أحرزه علي (عليه السلام) في جميع المجالات من الطبيعي أن يهيّج الحسد في القلوب، والتقدم الباهر الذي كان من نصيب علي (عليه السلام) في شتى الميادين كان في قمّة فضائله.
فالآيات القرآنية التي نزلت في حقه.
والأحاديث النبوية التي شملته دون غيره.
والموفّقية التي حازها علي (عليه السلام) وحده.
وخصائصه التي امتاز بها عن غيره من العالمين.
كان لها أسوأ الأثر، في النفوس المريضة.
وكانت تلك الرواسب والآثار كامنة في الصدور، كأنها نار تحت رماد حتى توفي رسول الله (صلى الله عليه وآله) وخلا الجو، وارتفع المانع فعند ذلك زال الرماد، وظهرت النار، وجعلت تلتهب وتشتعل.
بالله عليك انظر:
لقد مرّ عليك أن جماعة من الصحابة خطبوا السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) من أبيها الرسول (صلى الله عليه وآله) فرفضهم النبي، وحينما خطبها علي من الرسول وإذا به يجد الترحيب والتجاوب على أحسن ما يمكن.
أليس هذا مما يهيج الحسد في النفوس؟
ويأمر الرسول (صلى الله عليه وآله) أبا بكر أن يذهب إلى مكة بسورة البراءة ليقرأها على أهل مكة، ويخرج أبو بكر بالسورة متوجهاً نحو مكة، فينزل جبرئيل على الرسول قائلاً: إن ربك يأمرك أن تبلّغ هذه السورة بنفسك، أو يُبلّغها رجل منك. فيأمر النبي علياً أن يتوجه نحو مكة، ويتولى قراءة السورة على أهل مكة، ويأمر أبا بكر بالرجوع.
أليس هذا الأمر يهيج الحسد في القلوب.
وهكذا وهلم جرّاً، سِر مع علي (عليه السلام) عبر تاريخ حياته تجده المقدَّم على غيره في كافة المجالات، ويمطره جبرئيل بآيات من الذكر الحكيم تقديراً لبطولاته، وتنويهاً لإنجازاته، وتقبّلاً لصدقاته، ومدحاً لخدماته.
والمسلمون يقرأون تلك الآيات آناء الليل وأطراف النهار راضين أو مرغمين.
ومن العجيب: أن علياً كان يخوض غمار الحروب بأمر الرسول، ولأجل التحفظ على حياة الرسول، الرسول الذي كان الإسلام متمثلاً ومتجسدّاً فيه وقائماً به، فكيف كان الناس يكرهون علياً وهو الجندي ولا يكرهون الرسول وهو القائد للجيش؟‍‍‍‍‍!
في البحار عن أبي زيد النحوي قال: سألت الخليل بن أحمد العروضي فقلت: لِمَ هجر الناس علياً (عليه السلام) وقُرباه من رسول الله (صلى الله عليه وآله) قرباه، وموضعه من المسلمين موضعه، وعناؤه في الإسلام عناؤه؟؟
فقال: بَهَر ـ والله ـ نورُه أنوارهم، وغلبهم على صفو كل منهل، والناس إلى أشكالهم أميَل، أما سمعت الأول يقول:
وكـــــل شكــلٍ لـــشكله ألفُ***أمـا ترى الفيل يألف الفيلا
وأنشدنا الرياشي عن العباس بن الأحنف:
وقائـــــل كيـــف تهاجرتما؟***فقلت قولاً فــــــيه إنصـاف:
لم يك من شكـــلي فهاجرته***والنـــــاس أشــــكال وأُلاّف
وقال ابن عمر لعلي (عليه السلام): كيف تحبك قريش وقد قتلت في يوم بدر وأُحد من ساداتهم سبعين سيداً، تشرب أنوفهم الماء قبل شفاههم؟ فقال أمير المؤمنين (عليه السلام):
ما تــركت بـدر لنت مذيقاً***ولا لــــــنا من خلقنا طريقاً
ومن الواضح أن الأمور ليست عيوباً ونقائص حتى يكره الناس علياً بسببها ومعنى كلام الزهراء (عليها السلام): (نقموا منه ـ والله ـ نكير سيفه) من باب قول الشاعر:
ولا عيـب فيـهم غير أنَّ سيوفهم***بهنَّ فلـول مــــن قراع الكتائب
والمقصود: أنهم عابوا علياً على فضائله ومناقبه، وعلى انجازته وخدماته وعلى شجاعته وتضحياته، وجهاده وبطولاته، وليست هذه عيوباً حتى يُعاب علي عليها.
هذا ومن المؤسف أن الموضوع يناسب الشرح والتفصيل أكثر من هذا ولكن رعاية لأسلوب الكتاب نرجئ البحث إلى فرصة أخرى أو كتاب آخر.
(والله لو تكافوّا عن ذمام نبذه رسول الله (صلى الله عليه وآله) إليه لاعتلقه) شبهت السيدة فاطمة (عليها السلام) المجتمع الإِسلامي أو الأمة الإسلامية بالقافلة، وشبّهت الخلافة والقيادة الإِسلامية بالزمام وهو المقود، أي الحبل الذي يقاد به البعير، وشبّهت علياً (عليه السلام) بالدليل الذي يتقدم القافلة، ويأخذ بزمام البعير ليقود المسيرة.
ولم تنس السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) أن تقول: (نبذه رسول الله إليه) أي إن القيادة الإِسلامية إنما صارت لعلي (عليه السلام) بأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) حين قام في الناس رافعاً صوته: (من كنت مولاه فعلي مولاه).
وبعد هذا تقسم بالله قائلة: (والله) فالمسألة مهمة وعظيمة جدّاً جدّاً وتستحق أن يقسم الإِنسان بالله لأجلها.
(لو تكافّوا) أي كفّوا أيديهم، أي منع بعضهم بعضاً، بحيث لو أراد أحدهم تناوله منعه الآخرون (لاعتلقه) أي اعتلق علي (عليه السلام) الزمام، أي قام بالواجب كما ينبغي وقاد المسيرة على أحسن ما يتصور، وأفضل ما يرام.
ثم وصفت (عليها السلام) نتائج تلك القيادة الرشيدة لو كان يفسح لها المجال، وذكرت الفوائد والمنافع والخيرات والبركات التي كانت تعمّ الأمة الإِسلامية على مرّ القرون والأجيال فقالت:
(ثم لسارَ بِهم سيراً سجحاً) أي سار القائد بالمسيرة سيراً ليناً سهلاً، بكل هدوء وطمأنينة، فإن البعير إذا سار بالراكب سيراً عنيفاً فلا بدَّ وأن الراكب يتأذى من الحركة العنيفة، وتتحطم أعصابه لما في ذلك من الإزعاج والقلق.
ثم البعير نفسه يتألم حينما يجاذبه الراكب الحبل الذي قد دخل في ثقب أنفه وربما يجرح أنفه أيضاً، فيتأذى الراكب والمركوب، ولكن السيدة فاطمة تقول:
(لا يكلم خشاشه، ولا يتعتع راكبه) وفي نسخة: (ولا يكل سائره ولا يمل راكبه) أي الحبل أو الخشب الذي جعل في أنف البعير ويقال له (الخشاش) لا يجرح أنف البعير، ولا ينزعج راكب البعير، والمقصود: سلامة الراكب عن كل مشقة حال السير.
(ولأوردهم منهلاً نميراً فضفاضاً) وفي نسخة: (منهلاً روياً) إن الدليل الذي يتقدم القافلة لا بد وأن ينزل بهم منزلاً حسناً، ومكاناً لائقاً للراحة، على شاطئ نهرٍ أو عين ماء، ليأخذوا حاجتهم من الماء، ويسقوا دوابهم وغير ذلك.
تقول السيدة فاطمة (عليها السلام): كان علي (عليه السلام) يقود المسيرة إلى منهل نمير والمنهل: المورد أي محل ورود الإِبل، والنمير: العذب، النابع من عين لا ينقطع ماؤها. والفضفاض: الواسع.
(تطفح ضفتاه، ولا يترنق جانباه) النهر إذا كان ممتلئ يفيض جانباه وإذا كان عذباً لا يتكدر جانباه بالطين كما هو المشاهد من تكدر الماء بالطين على جوانب النهر، بل وحتى البحر.
فالكثرة والسعة في المجرى والعذوبة والنظافة وعدم التلوث بالطين وغيره من صفات ذلك الماء.
وكلها إشارات وكنايات إلى الحياة السعيدة التي كان الناس يعيشونها لو كان الأمر بيد الإِمام أمير المؤمنين، فالخيرات كانت تشمل أهل الأرض والعدل يسود المجتمع والسلامة كانت تعمّ الجميع، والرفاهية والاستقرار والطمأنينة والأمان والحرية (بمعناها المعقول) والسعادة في الدنيا، والنعيم في الآخرة كان من نصيب الجميع.
(ولأصدرهم بطاناً) وكانت نتيجة ذلك الورود هو الصدور من المنهل، والخروج من ذلك المورد بالبشع والارتواء، فلا جوع ولا حرمان، ولا فقر ولا مسكنة.
(ونصح لهم سراً وإعلاناً) النصح: حُب الخير، وعدم الغش، والمعنى: أن علياً كان يسعى في إسعادهم وجلب الخير لهم بصورة سرية وعلنية، أي ما كان يطلب من وراء تلك القيادة إلاَّ الخير للناس لا لنفسه.
(ولم يكن يحلَّى من الغنى بطائل، ولا يحظى من الدنيا بنائل، غير ريّ الناهل وشبعة الكافل) وهنا تذكر السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) موقف زوجها من تلك القيادة والزعامة العامة.
وقبل كل شيء: ينبغي أن لا ننسى أن في العالم أفراداً يحبون القيادة والرئاسة لأنفسهم، أي يحبون ليحكموا على الناس، ويتصرفوا كما يشاءون وكما يريدون، ويحبون الرئاسة لأنها وسيلة تحقيق أهدافهم وأُمنياتهم الشخصية فهم يتنعمون من وراء تلك الرئاسة بشتى أنواع النعم، ويختارون لأنفسهم أفضل حياة.
وهناك أفراد (وقليل ما هم) يحبون الرئاسة والقيادة ليخدموا الناس، ويصلحوا المجتمع، ويجلبوا الخير والسعادة للشعوب، ليعيش الناس آمنين مطمئنين، ولتكون لهم حياة مشفوعة بالراحة والخير والنعيم.
إن هذه الطائفة من أولياء الله لا يشعرون بالنقص في أنفسهم كي يكملوا أو يستروا ذلك النقص بالفخفخة والجبروت بل إنهم يشعرون بالكمال في أنفسهم، فهم في غنى عن الناس، والناس بحاجة إليهم، إن هؤلاء لو حكموا لنفعوا الناس وأصلحوهم، وأمنّوا حياتهم من جميع نواحيها.
وفي الوقت نفسه لا يستفيدون ولا ينتفعون من حطام الدنيا، ولا تطيب نفوسهم أن يتنعموا بأموال الفقراء، ويبنوا قصورهم على عظام الضعفاء، إنهم يحملون نفوساً أبيّة وأنوفاً حميّة، وأرواحاً طيبة تستنكف التنازل إلى هذا المستوى السافل.
بعد هذا يتضح لنا كلام السيدة فاطمة (عليها السلام) حول موقف زوجها تجاه القيادة لو كان يفسح له المجال، ولا يغلق عليه الطريق.
تقول: (ولم لم يكن يحلى من الغنى بطائل) أي لو كان علي جالساً على منصة الحكم ما كان يستفيد من أموال الناس لنفسه فائدة كثيرة، وما كان يصيب من بيوت الأموال لنفسه فائدة كثيرة، وما كان يصيب من أموال الناس وكنوز الثروة خيراً.
(ولا يحظى من الدنيا بنائل) ما كان ينال من ثروات الدنيا بالعطاء سوى مقدار إرواء نفسه من العطش، وإشباع عائلته من الجوع.
احفظ هذه الجملة وانظر إلى حياة الحكام والسلاطين في العالم، تجدهم يسكنون أفخم المساكن، ويلبسون أفخر الملابس، ويأكلون ألذَّ المآكل، ويركبون أحسن المراكب ويؤثثون بيوتهم بأغلى الأثاث، ويعيشون أفضل المعيشة، ولا تسأل عن الذخائر التي يدّخرونها ليوم ما!؟؟
كل ذلك من بيت المال، وكل ذلك من أموال الدولة وأموال الشعب، نعم، إن السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) هكذا تعرّف زوجها، والتاريخ الصحيح يصدّق كلامها والواقع يؤيد ادعائها.
فلقد حكم الإِمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) أربع سنوات وشهوراً، فكانت حياته هكذا مائة بالمائة، فلقد كتب (عليه السلام) إلى عثمان بن حنيف كتاباً يقول فيه: (ألا وإن إمامكم قد اكتفى من دنيا بطمرية، ومن طعمه بِقُرصية.. فوالله ما كنزت من دنياكم تبراً، ولا ادّخرت من غنائمها وفراً، ولا أعددت لبالي ثوبي طمراً، ولا حزت من أرضكم شبراً بلى، كانت في أيدينا فدك من كل ما أظلّتها الخضراء، فشحّت عليها نفوس قوم وسختْ عنها نفوس قوم آخرين..) الخ.
بقيت هنا كلمة لا ينبغي ترك ذكرها، وهي:
ربما يتصور البعض أو يتبادر إلى ذهنه أن علياً الذي وصفته الزهراء (عليها السلام) بأنه لو كان يقود المسيرة لسار بهم سيراً سجحاً لا يكلم خشاشة، ولا يتعتع راكبه (إلى آخر أوصافه) فلماذا حينما حكم على الناس، وتسلّم القيادة وجلس على منصة الخلافة حدثت الاضطرابات الداخلية، والحروب الأهلية الدامية، والمشاكل والمصائب والمذابح التي شملت الأمة الإِسلامية في عهده؟؟
نجيب على هذا بما يلي:
لا شك أن المجتمع الإسلامي في عهد الرسول (صلى الله عليه وآله) كان مجتمعاً صالحاً من جميع النواحي، ولكن الذين حكموا المجتمع بعد وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله) خلال ربع قرن قد غيّروا وبدّلوا وتصرّفوا تصرفات غير مرضية، ولو ألقيت نظرة إمعان على تاريخ الحكام الذين تسلّموا السلطة بعد الرسول مباشرة خلال خمسة وعشرين عاماً لرأيت كمية وافرة من الأوامر والفتاوى والأحكام المضادّة للشريعة الإِسلامية من الكتاب والسنة، من تغيير الوضوء والأذان وكيفية الصلاة وعدد ركعاتها إلى الحج إلى الجهاد إلى النكاح وإلى الطلاق وهكذا وهلَّم جرَّا.
ولو أردنا أن نذكر الشواهد والأمثلة لهذه المواضيع لطال بنا الكلام، ولكننا نكتفي ـ هنا ـ بمثال واحد كنموذج. ولك أن تقتبس من هذا المثال بقية الأمثلة:
خرج خالد بن الوليد بجيشه إلى بعض قبائل المسلمين. وكان في تلك القبيلة رجل من المسلمين اسمه: مالك بن نويرة، قد أسلم على يد النبي وشهد له رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالجنة وشهد عمر بن الخطاب بإسلامه فقتله خالد بن الوليد بغير ذنب سوى ذنب واحد، وهو أن زوجته كانت من أجمل نساء قومها وقد رآها خالد بن الوليد وطمع فيها، ولم يجد طريقة للاستيلاء عليها سوى قتل زوجها المسكين فقتله خالد، وفي نفس الليلة زنى بزوجته.
وحينما رجع خالد إلى المدينة لم يجد أي عقاب أو عتاب من رئيس الدولة يومذاك هذا هو المتفق عليه بين المؤرخين بلا استثناء، مع العلم أن الإِسلام لم يسمح بنكاح المعتدة ما دامت في العدة، والرجل لم يتزوج بها.
هذه المأساة التي تجدها في أكثر التواريخ، أتعلم كم تشتمل هذه الفاجعة من إهدار الدماء البريئة وهتك الأعراض، وارتكاب الجرائم، والتلاعب بكرامات الناس ومقدراتهم؟ وكم تتبدل نظرة الناس إلى الدين وإلى الدولة الإِسلامية؟
وقد مرَّ عليك موقف هؤلاء اتجاه بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) الوحيدة العزيزة واتجاه زوجها العظيم، وولديها الحسن والحسين (عليهم السلام)؟
إن الإسلام والقيادة الإسلامية وصلت إلى يد علي (عليه السلام) وهي مفككة العرى محطمة الجوانب، مشوهة السمعة.
ولما أراد الإِمام علي أن يصلح تلك المفاسد، وأن يعيد الإِسلام إلى طريقه السوي ويلبسه حلّة القداسة والجمال، وإذا به يجد أصحاب المطامع يقومون ضدّه، ويشهرون سيوفهم في وجهه، فتكوّنت الحروب الداخلية وقامت المجازر على قدم وساق، وقد ذكرنا الشيء اليسير من تلك المآسي في الجزء الأول والثاني والثالث من شرح نهج البلاغة، وأنت إذا راجعت وقارنت فسوف تنكشف لك أمور، وتتضح لك أسرار.
نحن لا زلنا في شرح الخطبة:
(ولبان لهم الزاهد من الراغب) إن السيدة فاطمة (عليها السلام) لا تزال توالي حديثها عن زوجها الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) وإنه لو كان يستلم القيادة كان يقنع من الدنيا بالشيء اليسير اليسير، وذلك بمقدار إرواء عطشه وإشباع عائلته، وعند ذلك كان يظهر للناس الزاهد الحقيقي الذي لا يطمع في أموال الناس، ويظهر الراغب الذي كان يخضم مال الله خضم الإِبل نبتة الربيع وأمثاله.
(والصادق من الكاذب) وظهر لهم الصادق الذي يصدق في أقواله وأفعاله من الكاذب الذي يكذب في ادعاءاته وتصرفاته.
ثم إنها (عليها السلام) ختمت هذه المقطوعة من حديثها بالآية الكريمة، وطبّقتها على هذه الأمة، فقالت: (ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذَّبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون)(58). ما أنسب هذه الآية بهذا المقام وما أجمل هذا التشبيه في هذا الكلام؟
وتقصد السيدة فاطمة أن الناس لو كانوا يقبلون كلام الرسول (صلى الله عليه وآله) في تعيين علي بالخلافة وكانوا ينقادون له لكانت الدنيا لهم روحاً وريحاناً وجنة نعيم، ولكنهم خالفوه واختاروا غيره، وبعملهم هذا كذَّبوا رسول الله (صلى الله عليه وآله) تكذيباً عملياً، فسوف يشاهدون الويلات تنصبُّ عليهم، وأردفت هذه الآية بمثلها، فقالت: (والذين ظلموا من هؤلاء سيصيبهم سيئات ما كسبوا وما هم بمعجزين)(59) وسيأتيك القول بالتفصيل عن الويلات والمآسي التي انصبَّت على الأمة الإِسلامية من جرّاء تلك القيادة الشاذة ومضاعفاتها.
(ألا هلم واستمع) وفي نسخة: (هلممن واستمعن) فعلى النسخة الأولى يكون الخطاب عاماً للجميع، وعلى النسخة الثانية يكون الخطاب خاصاً بالنساء اللاتي حضرن عيادتها.
(وما عشت أراك الدهر عجباً) أي كلما عشتَ أو مدة عيشك في الدنيا رأيت العجائب التي لا بالبال ولا بالخاطر.
(وإن تعجب فعجب قولهم) هذه الجملة من آية في سورة الرعد وهي: (وإن تعجب فعجب قولهم أئذا كنا تراباً أإنا لفي خلق جديد) اقتبست السيدة فاطمة (عليها السلام) هذه الجملة من الآية وأدمجتها في حديثها، والمقصود أن الناس يتعجبون من بعض الأمور وليست بعجيبة، ولا تستحق التعجب، وهناك أمور وقضايا عجيبة ينبغي أن يتعجب منها، لأنها أمور لا تنسجم مع الشرع ولا مع العقل ولا الوجدان ولا الضمير، ولا تدخل تحت أي مقياس من المقاييس الصحيحة والأمر العجيب هو ما يلي:
(ليت شعري إلى أي سناد استندوا؟ وعلى أي عماد اعتمدوا؟ وبأية عروة تمسكوا؟ وعلى أية ذريّة أقدموا واحتنكوا؟) إن الناس كانوا يستندون على رسول الله (صلى الله عليه وآله) وينقادون له، ويعتمدون على أقواله، ويطيعون أوامره، لأنه مرسل من عند الله، ومتصل بالعالم الأعلى، قد توفرت فيه الأهلية بجميع معنى الكلمة، فلا عجب في ذلك إذا خضع له الناس، وقدَّموه على كل شيء، ولكن العجب كل العجب أن بعض الناس بعد وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله) تنازلوا إلى مستوى نازل جداً فسلّموا القيادة إلى أفراد لا توجد فيهم المؤهلات.
فالذي كان يستند ويعتمد على الرسول (صلى الله عليه وآله) يتمسك به كيف تطيب نفسه أو يرضى ضميره أن يعترف بالقيادة الإسلامية لأفراد ليسوا في تلك المرتبة وتلك الدرجة.
تتعجب السيدة فاطمة (عليها السلام) ويتعجب معها عقلاء العالم وأصحاب الضمائر الحية والنفوس المعتدلة والقلوب السلمية من تلك الانتخابات المخالفة لجميع المقاييس والنواميس والموازين.
(وبأية عروة تمسكوا) لقد ثبت عند المسلمين كلام رسول الله (صلى الله عليه وآله) (إني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، وإنكم لن تضلوا ما أن تمسكتم بهما) ومعنى الحديث أن الرسول أمر المسلمين أن يتمسكوا بالقرآن والعترة معاً، ولكن هؤلاء بأية عروة تمسكوا وتعلقوا واعتصموا.
(وعلى أية ذرية أقدموا واحتنكوا؟) أيعلم هؤلاء مَن هي فاطمة الزهراء؟ أيعلم هؤلاء ما منزلة هذه الذرية الطاهرة الشريفة الذين هم أشرف أسرة على وجه الأرض؟
أيعلم هؤلاء ما صنعوا اتجاه أهل البيت؟
الذين أمرهم الله بمودتهم بقوله: (قل لا أسألكم عليه أجراً إلاّ المودة في القربى).
الذين فرض الله طاعتهم على كل مسلم بقوله: (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأُولي الأمر منكم) الذين مَثَلهم كمثل سفينة نوح، من ركبها نجى، ومن تخلّف عنها هوى وغوى وهلك، الذين مَن أحبّهم فقد أحب الله، ومن آذاهم فقد آذى الله، ومن أبغضهم فقد أبغض الله.
فوالله الذي لا إله إلا هو إنهم آذوا ذرية رسول الله وعترته وأهل بيته، وظلموهم وأغضبوهم واعتدوا عليهم، وهتكوا حرمتهم، وجرّأوا الناس على إيذائهم، وقد حكم الله تعالى بين عباده.
بأي دين؟ وبأية شريعة؟ وبأي مجوّز شرعي صنعوا ذلك الصنيع اتجاه آل رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟
أنا لا أدري، ولعل القوم ينحتون الأعذار التي تبيح لهم هتك تلك الحرمات، وإهدار تلك الكرامات.
(ولبئس المولى ولبئس العشير) اقتبست السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) هذه الجملة من قوله تعالى في سورة الحج آية 13: (يدعو لمن ضرّه أقرب من نفعه لبئس المولى ولبئس العشير) أي أن الذي اختاروه للولاية بئس المولى وبئس العشير، والعشير هو الصديق الذي ينتخب للمعاشرة.
(وبئس للظالمين بدلاً) هذه الجملة من قوله تعالى في سورة الكهف 50: (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلاّ إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربّه أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلاً).
(استبدلوا - والله - الذنابا بالقوادم والعجز بالكاهل) من جملة العلوم التي لها الصدارة على بقية العلوم هو علم الاجتماع، وهو علم يبحث عن تقدم الأمم أو تأخرها، أسباب ضعفها أو قوتها، وصلاحها وفسادها، ونتائج الصلاح ومضاعفات الفساد.
ومن الوسائل التي كان لها التأثير في توعية المجتمع نحو الخير والشر، ونحو الصلاح أو الفساد، وتقرير مصير الشعوب: هو جهاز الدولة وجهاز الدين، وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (طائفتان من أُمتي إذا صلحتا صلح الناس، وإذا فسدتا فسد الناس: العلماء والأمراء) وفي ذلك اليوم كان جهاز الدولة وجهاز الدين واحداً، فالخليفة يُعتبر رئيس الدولة ورئيس الدين، ويدير دفة الحكم على الصعيدين: الدولي والديني.
وإننا نجد الشعوب المتحضرة، المثقفة المتقدمة إنما وصلوا إلى القمة وحازوا التقدم في كافة المجالات بسبب الأسرة الحاكمة التي مهّدت لهم السبل، وهيأت لهم الوسائل وزوّدتهم بالتعليمات، وشجعتهم على العمل.
وهكذا نجد الشعوب المتأخرة والمتفسخة التي استولى عليهم الجهل والفقر والمرض والذل والهوان والخلاعة والمجون هم ضحايا إهمال الحكام وأصحاب القيادة، وقد قيل: (الناس على دين ملوكهم).
وهنا تنتقل السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) إلى حديثها عن علم الاجتماع، فتقول:
(استبدلوا - والله - الذنابا بالقوادم) إن التشبيه في الكلام له تأثير عجيب في النفس، وتقريب المعنى إلى الذهن بصورة واضحة.
شبّهت السيدة فاطمة (عليها السلام) الأمة الإسلامية بالطائر، وشبهت القائد أو القيادة بأجنحة الطائر، لأن الطائر لا يستطيع أن يطير إلاّ بجناحيه، والجناح مركب من عشر ريشات كبار، ويقال لها (القوادم) وتحت تلك الريشات الكبار عشر ريشات صغار يقال لها (الخوافي) وعلى موضع ذنب الطائر ريشات يقال لها: (الذنابا).
فالقوادم هي قوام الطيران، ولا يمكن الطيران بغير القوادم، لأنها بمنزلة المحركات القوية في جناح الطائرة التي بإمكانها أن تقلع الطائرة وترتفع بها عن الأرض وتسير في الفضاء.
فالطائر إذا قطعت قوادمه لا يستطيع الطيران بالخوافي وهي الريشات الصغار، ولا بالذنابا، لأن الذنابا لا تستطيع حمل جسد الطائر وإقلاعه عن الأرض لعجز الذنابا وضعفها.
(والعجز بالكاهل) العجز - بفتح العين وضم الجيم -: من كل شيء مؤخره، ومن الإنسان ما بين الوركين، والكاهل ما بين الكتفين، والكاهل أقوى موضع في البدن لحمل الأثقال، وبالعكس: العجز لا يليق ولا يستطيع حمل الأثقال.
والمقصود من هذين المثالين أو التشبيهين هو: أن القوم سلّموا الأمور العظيمة، والمناصب الخطيرة وهي القيادة إلى من لا يليق بها، ولا يستطيع القيام بأمورها لعدم توفر الإمكانيات فيه، وعجزه عما يتطلبه الأمر من العلم والعقل والتدبير، وذلك بعد أن سلبوا تلك الإمكانيات من أصحابها الأكفاء ذوي اللياقة والخبرة والبصيرة.
إنهم باعوا علياً (عليه السلام) يوم الغدير بأمر من الله تعالى ورسوله (صلى الله عليه وآله) وباختيار منهما، ولكنهم نكثوا عهدهم، ونقضوا ببيعتهم، وبايعوا غيره الذي لا يقاس بعليّ (عليه السلام) علماً وشرفاً وفضلاً وسابقة وغير ذلك من المرجِّحات.
(فرغماً لمعاطس قوم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً) إنها تدعو على أقوام الذل والهوان، وهو إرغام أنوفهم، وهم الذين يظنون أنهم مهتدون في أعمالهم، ومصلحون في تصرفاتهم.
والحال: (ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون) وهل يشعر المنحرف أنه منحرف وشاذ؟ بل بالعكس، يتصور أنه هو المهتدي المعتدل المستقيم، وأنه على الحق وأن غيره على الباطل، ولا يؤثر فيه المنطق ولا ينفع فيه الدليل والبرهان.
وهاتان الجملتان مقتبستان من قوله تعالى:
(قل هل نُنبَّئُكُمْ بالأخسرين أعمالاً الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً)(60) ومن قوله تعالى: (وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون)(61).
ثم أدمجت آية أخرى في كلامها بالمناسبة فقالت:
ويحهم! (أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يُتَّبع أمن لا يهدّي إلا أن يُهدى فما لكم كيف تحكمون)(62).
هذه الآية الشريفة تشير إلى بحث الهداية، والمقارنة بين الذي يهدي إلى الحق، ويرشد الناس إلى الطريق وبين الذي لا يهتدي ولا يعرف الطريق إلاَّ أن يُهدى أي يهديه غيره، أيهم أحق بالإتّباع؟ وأيّهما يستحق أن يكون قائداً للأمة؟
وهنا تقصد فاطمة الزهراء (عليها السلام) من هذه المقارنة أن علياً هو الرجل الكامل علماً وفضلاً وعقلاً، ومواهب، فهو أولى بالقيادة، وأحرى بالاتباع من أفراد ليسوا كاملين في العلم والعقل والتدبير وما شابه ذلك من لوازم القيادة، والتاريخ يثبت كلا الجانبين: جانب الكمال في عليّ، وجانب النقص في غيره.
(أما لعمري! لقد لقحتْ) إن الميكروبات التي تتكون في البدن، وتنتج أمراضاً صعبة العلاج إنما تبدأ من الجرثومة التي تدخل في الدم، وهناك تتلاقح، وبمرور الزمان تنتشر الميكروبات في الدم، وتؤثر على الكريات البيض والحمر، وهناك الويلات، وهناك، الملاريا والكوليرا، وهناك السرطان، وهناك المرض الذي يعمّ البدن ويشمل الجسد كله.
تقول السيدة فاطمة الزهراء: (أما لعمري! لقد لقحت) لقحت جرثومة الفتنة في الأمة الإسلامية، والفتنة في طريقها إلى التوسع والانتشار.
(فنظرة ريثما تنتج) أي انتظروا حتى تنتشر الميكروبات في هيكل المجتمع الإسلامي فبعد أن كانت القيادة الصالحة اللائقة تقود المسلمين وإذا بقيادة معاكسة ومغايرة لها تماماً تزاحمها وتحل محلها.
وبعد أن كانت الأحكام الإسلامية الطرية المعتدلة تسود المجتمع الإسلامي إذ بأحكام منبعثة عن الهوى وعن آراء شخصية متطرفة تقوم مقام تلك الأحكام وهكذا تتبدل المفاهيم، وتتغير المقاييس.
(ثم احتبلوا ملء القعب دماً عبيطاً) الناقة إذا ولدت يُحلب منها اللبن، ولكن الفتنة إذا لقحت وأنتجت يحلب منها الدم لا اللبن، أي تتكون المجازر والمذابح، فبعد أن كان الدين الإسلامي دين الأمن والحياة والسلام في الواقع وإذا به ينقلب مفهومه لدى هؤلاء فيصبح دين الإبادة والهلاك، والدمار والفناء.
انظر إلى التاريخ الإسلامي الذي شوّهه هؤلاء.
تجد أنهاراً من الدماء التي جرت من أجساد المسلمين.
وتجد التلال التي تكونت من جثثهم.
فمثلاُ: ذكر المؤرخون أن عثمان بن عفان قام بأعمال منافية للقرآن والسنة، فعاتبه المسلمون على ذلك، ولكنه لم يرتدع بل استعمل العنف والقوة معهم ضرباً وسباً وتبعيداً وتهديداً.
وأخيراً أورثت أعماله في المسلمين هياجاً عاماً، وكانت عائشة تهيّج الناس ضدّه وهكذا طلحة وابن العاص، وأخيراً قتلوا عثمان.
وإذا بالذين كانوا يحرّضون الناس ضده خرجوا يطلبون بدمه، وقد قُتل عثمان في المدينة، وذهب هؤلاء إلى البصرة يطلبون بدمه، وبين المدينة والبصرة أكثر من ألف كيلو متر، فأجّجوا نيران الحرب هناك، فقتل في حرب البصرة خمسة وعشرون ألف إنسان!.
ثم نهض معاوية زاعماً أنه يطلب بدم عثمان، فقامت الحرب في منطقة سورية بالقرب من مدينة حلب يقال لها (صفين) وهدأ القتال وعلى الأرض تسعون ألف قتيل!.
ثم صارت واقعة النهروان فقتل فيها أربعة آلاف إنسان.
ثم خرج بسر بن أرطاة من الشام وقصد المدينة ومكة واليمن وفي طريقه كان يقتل الناس، حتى قتل من شيعة عليّ في اليمن وغيره ثلاثين ألف قتيل.
خذ القلم بيدك واحسب مجموع القتلى:
25.000 + 90.000 + 4000 + 30.000 = 149000.
هؤلاء القتلى، ولا تسأل عن الجرحى، ولا تسأل عن أرامل هؤلاء، وأيتامهم، ومضاعفات تلك المآسي، ولا تسأل عن الدموع الجارية، والعيون الباكية، والقلوب الملتهبة، والآهات والأحزان التي جعلت تلك الحياة جحيماً على ذلك المجتمع بكافة جوانبه ونواحيه، كل ذلك في خلال أربع سنوات.
وهل انتهت المأساة هنا؟ لا، بل هناك مآسي ومجازر ومذابح تقشعر منها الجلود، وسوف نذكر بعضها.
نعم، لا تزال السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) تخبر عن الفجائع والفظائع التي هي في طريق الأمة الإسلامية، وكامنة لها بالمرصاد.
ليس هذا التنبؤ إخباراً عن الغيب، بل إخبار عن نتائج الأعمال ومضاعفاتها فالطبيب الحاذق إذا نظر إلى إنسان لا يراعي أصول الصحة في مأكله ومشربه وتنفسّه ويستعمل الأشياء الضارة فإن الطبيب يخبره بمصيره المظلم، والأمراض الفتاكة التي تقضي على حياته من جرّاء تلك الأعمال المنافية لأصول الصحة العامة.
وكذلك السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) تنظر إلى ذلك المجتمع وسوء اختيار الأمة للقيادة غير الصالحة، فتنكشف لها العواقب السيئة التي يؤول إليها أمر الأمة الإسلامية ببركات تلك القيادة!!.
تقول: (ثم احتلبوا ملء القعب دماً عبيطاً) وفي نسخة: (طلاع القعب) أي القدح الكبير الضخم الذي يتفايض بالدم حتى يسيل منه، والمقصود كثرة الدماء التي تُراق.
(وذعافاً ممقراً مبيداً) أي احتلبوا الدم، واحتلبوا السمّ المرّ المهلك، والمقصود منها: النتائج السيئة التي عمَّ شؤمها الإسلام والمسلمين من الويلات والمصائب التي انصبّت على المسلمين.
(هنالك يخسر المبطلون) أي عند ذلك يظهر خسران المبطلين.
(ويعرف التالون غبَّ ما أسَّسه الأولون) يعرف الآخرون عاقبة الأعمال التي أسّسها الأوّلون.
(ثم طيبوا عن دنياكم أنفساً) يقال: طب نفساً: أي أسكن واهدأ عن القلق وهذا كما يقال للظالم: قرَّت عينك، أو بشراك وأمثالها من الكلمات التي يراد بها العكس في الكلام لا الحقيقة.
(واطمأنوا للفتنة جاشاً) أي فلتسكن للفتنة قلوبكم، وهذا أيضاً يراد به العكس، فإن القلب لا يسكن للفتنة وإنما يسكن للأمان والسلامة.
(وابشروا بسيف صارم وسطوة معتد غاشم) هذه الكلمة على غرار قوله تعالى: (فبشّرهم بعذاب أليم) وهذه الكلمة أو الجملة أيضاً على العكس.
(وهرج شامل) وفي نسخة: (وهرج دائم شامل) الهرج: الفتنة والفوضى واختلال الأمور.
(واستبداد من الظالمين) الاستبداد: الدكتاتورية، والعمل على خلاف المقاييس والموازين، لا تحت أي نظام أو قانون أو شريعة أو دين.
(يَدَع فيئكم زهيداً وجمعكم حصيداً) أي ذلك الاستبداد أو المقصود من ذلك جميع ما تقدم من قولها: سيف صارم وسطوة معتد غاشم وهرج واستبداد ومجموع هذه الأشياء يدع فيئكم زهيداً أي يجعل الغنائم والخراج حقوقكم المالية زهيداً قليلاً (وجمعكم حصيداً) وفي نسخة: (وزرعكم حصيداً) أي محصوداً، والمقصود أن السلطة التي تحكم عليكم يتصرفون في غنائمكم حسب مشتهياتهم ويجرّونها إلى أنفسهم فلا ترون منها إلاّ القليل، ويحصدون جمعكم أي جماعتكم بسيوفهم.
وكلها إخبارات بالمستقبل المظلم الذي كان بالمرصاد للمسلمين، والمآسي والكوارث التي تنزل بهم، والويلات التي تنصبّ عليهم!.
ولقد تحقّق كل هذا. وهذا كله، لقد ابتلي المسلمون بفجائع ومذابح ومآسي لا يستطيع أحد أن يتصوّرها، فوالله أنّهم سوّدوا تاريخ الإسلام، وشوّهوا سمعة هذا الدين، وإليك بعض تلك الحوادث شاهداً على ما نقول:
لقد ذكرنا - فيما مضى - بعض المجازر التي قام بها أصحاب الجمل ومعاوية والخوارج وبعض عملاء معاوية، والآن استمع إلى غيرها:
لو أردنا أن نذكر - هنا ما جرى على الأمة الإسلامية من الظلم والجور والضغط والكبت والعنف والقسوة، والاستبداد بالأموال وإراقة الدماء البريئة على أيدي حكام الجور لطال بنا الكلام جداً جداً، فإن التحدّث عن هذه المصائب والفجائع يحتاج إلى موسوعة وموسوعة.
ولكننا رعاية لأسلوب الكتاب وبمناسبة التحدث عما أخبرت به السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) من الويلات التي كانت بالمرصاد على طريق المسلمين الذين اختاروا تلك القيادة التي ما أنزل الله بها من سلطان، ونبذوا وراءهم ولاية آل رسول الله (صلى الله عليه وآله) وسلبوهم القدرة والإمكانية.
نختار من بين المئات من الفجائع التي انصبت على أهل المدينة فجيعة واحدة تقشعرّ منها الجلود، وتشمئز منها النفوس.
وقبل أن أذكر الواقعة لا بأس بذكر مقدمة تمهيدية كي تظهر نتائج تغيير القيادة الإسلامية عن مجراها وأُسُسها:
من الصحيح أن نقول: إن حكام الجور الذين جلسوا على كراسي الحكم، وقبضوا بأيديهم أزمّة الأمور واستولوا على رقاب البشر عن طريق السيف قد رفضوا العمل بالإسلام الذي جاء به محمد (صلى الله عليه وآله) فكانت تصرّفاتهم لا تتفق مع القرآن الكريم ولا السّنّة النبوية ولا منطق العقل ولا قانون الإنسانية ولا نظام العدل ولا تعاليم الإسلام.
بل كانوا يحكمون على أموال الناس ودمائهم حسب رغباتهم الشخصية وشهواتهم النفسية، وإجابة للحرص والجشع، وإطاعة لأهوائهم.
فالناس لا كرامة لهم ولا قيمة لحياتهم عند هؤلاء، وليس المهم عند أولئك الحكام أن يعيش الناس برخاء ورفاه أو يموتوا جوعاً وفقراً وإنما المهم المحافظة على عرش الحاكم وإبقاء جبروته وإشباع شهواته ورغباته وترفه وبذخه ولو كان مستلزماً لإراقة دماء الشعب المسلم البريء المسكين، وما قيمة المسلم وما حرمة الإسلام أمام أهواء الحاكم الدكتاتوري الظالم السفّاك الذي لو كان يؤمن بالله واليوم الآخر لكان سلوكه على خلاف تلك الأعمال المناقضة للدين الإسلامي.
ولعلك - أيها القارئ تتصور وتظن أنّ في كلامي هذا شيئاً من المبالغة والإسراف، ولكنك لو اطلعت على تاريخ الأمويين والعباسيين والمجازر والمذابح الجماعية التي قاموا بها لصدّقت كلامي بل واعتبرت كلامي هذا أقل من القليل عن الواقع الذي مرّت به الأمة الإسلامية عبر القرون!.
إنهم جعلوا الحياة جحيماً وعذاباً أليماً على المجتمع الإسلامي الذي كان يعيش تحت سياطهم وسيوفهم!.
وهاك مثالاً واحداً على بعض ما نقول:
1 - عائفة: كارهة.
2 - قالية: مبغضة.
3 - لفظتهم: رميت بهم. عجمتهم: مضغتهم.
4 - شنئتهم: أبغضتهم. سبرتهم: عرفت عمقهم، أي تأمّلتهم.
5 - فلول الحد: ثلمة حدّ السيف.
6 - الجِدّ - بكسر الجيم -: ضد الهزل واللعب.
7 - قرع الصفاة: ضرب الضخرة الملساء، وصدع القناة: استرخاء الرمح. وقيل: الصدع: الشق.
8 - خطل الآراء: فسادها. وزلل الأهواء: انحراف الميول والرغبات.
9 - سورة المائدة: آية 80.
10 - قلّدتهم: جعلت في أعناقهم، ربقتها: حبلها.
11 - حمّلتهم أوقتها: حمّلتهم الثقل والمسؤولية.
12 - شننت: أرسلت. والعار: السبة والعيب.
13 - الجدع - بفتح الجيم -: قطع الأنف. والعقر - بفتح العين -: الجرح. والسحق: البعد، وكلها في مقام الدعاء عليهم.
14 - زحزحوها: نحّوها. والرواسي: الثوابت.
15 - قواعد البيت: أسسه.
16 - مهبط الروح الأمين: محل نزول جبرئيل.
17 - الطبين: الحاذق الفطن العارف.
18 - نقموا منه: عابوا وكرهوا.
19 - نكير سيفه: لا يعرف سيفه أحداً ولا يفرّق بين الشجاع وغيره.
20 - الحتف: الهلاك.
21 - وطأته: أخذته. ونكال وقعته: إصابة صدمته.
22 - التنمّر: الغضب، والمقصود من ذات الله أي لوجه الله.
23 - تكافّوا: صرف بعضهم بعضاً. والزمام: مقود البعير. أو الخيط الذي يُشدّ في ثقب أنف البعير.
24 - السير السجح: السهل اللين.
25 - لا يكلم: لا يجرح. والخشاش - بكسر الخاء - الخيط الذي يدخل في عظم أنف البعير.
26 - يتعتع راكبه: يقلق ويتحرك حركة عنيفة.
27 - المنهل: محل ورود الماء. والنمير: الماء العذب السائغ النامي للجسد، والروي: الكثير. والفضفاض: الواسع. تطفح: تمتلئ حتى تفيض. ضفّتاه: جانباه. يترنّق: يتكدّر.
28 - بطاناً: عظام البطون من كثرة الشرب.
29 - يحلى: يصيب ويستفيد. والطائل: كثير الفائدة.
30 - يحظى: يظفر. والنائل: العطاء.
31 - الناهل: العطشان.
32 - الكافل - هنا -: المحتاج إلى الطعام.
33 - سورة الأعراف: 96.
34 - سورة الزمر: آية 51.
35 - ليت شعري: ليتني علمت. والسناد - بكسر السين -: ما استندت إليه من حائط أو غيره.
36 - احتنكوا: استولوا.
37 - الذناب: ذنب الطائر. القوادم: ريشات في مقدم الجناح.
38 - العجز - بفتح العين وضم الجيم -: المؤخر من كل شيء. والكاهل: ما بين الكتفين.
39 - رغماً: كناية عن الذل: والمعاطس: جمع معطس (مكان العطسة) وهو الأنف.
40 - سورة يونس: آية 35.
41 - لقحت: حملت
42 - فنظرة: فمهلة. ريثما: مقدار ما. وتنتج: تلد.
43 - القعب: إناء ضخم. والدم العبيط: الطري.
44 - الذعاف: السم السريع الفناء. والمبيد المهلك.
45 - التالون: التابعون. والغب: العاقبة.
46 - طابت نفسه عن كذا: رضيت به غير كارهة.
47 - الجاش: القلب.
48 - المعتدي: الجائر: والغاشم: الظالم.
49 - الهرج: الفوضى، والقتل، واختلاط الأمور.
50 - الاستبداد: التفرد بالشيء من غير منازع.
51 - الفيء: الخراج والغنيمة. وزهيداً: قليلاً.
52 - جمعكم: زرعكم.
53 - الحسرة: التلهف على الشيء الفائت.
54 - كيف يصنع بكم.
55 - عميت: التبست.
56 - نبرم العهد: نبايع لأبي بكر.
57 - التعذير: هو التقصير ثم الاعتذار. والتقصير: التواني عن الشيء
58 - سورة الأعراف: آية 96.
59 - سورة الزمر: آية 51.
60 - سورة الكهف: آية 104.
61 - سورة البقرة الآيتان 11 و12.
62 - سورة يونس: آية 35.





 توقيع : السيد هادي الحمامي


رد مع اقتباس
قديم 04-03-2012, 02:42 PM   #2
عضو مميز


الصورة الرمزية عابس الشاكري
عابس الشاكري غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 450
 تاريخ التسجيل :  Mar 2012
 أخر زيارة : 01-29-2013 (02:58 PM)
 المشاركات : 345 [ + ]
 التقييم :  10
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي



بارك فيك الرحمن


طبتم وطابت مواضيعكم










 

رد مع اقتباس
قديم 04-03-2012, 07:37 PM   #3
مديــر عام


الصورة الرمزية سيد عدنان الحمامي
سيد عدنان الحمامي غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1
 تاريخ التسجيل :  Apr 2011
 أخر زيارة : 04-25-2024 (11:01 PM)
 المشاركات : 7,694 [ + ]
 التقييم :  10
 الدولهـ
Iraq
 الجنس ~
Male
لوني المفضل : Darkgreen
افتراضي




سيد هادي الحمامي














 
 توقيع : سيد عدنان الحمامي



رد مع اقتباس
قديم 04-03-2012, 09:54 PM   #4
المراقبين


الصورة الرمزية خادمة الشفيع
خادمة الشفيع غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 399
 تاريخ التسجيل :  Nov 2011
 أخر زيارة : 06-27-2014 (07:17 PM)
 المشاركات : 2,720 [ + ]
 التقييم :  10
 الدولهـ
Iraq
 الجنس ~
Female
لوني المفضل : Forestgreen
افتراضي



سيد هادي الحمامي




 
 توقيع : خادمة الشفيع

اللهم صلِّ على محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين




رد مع اقتباس
قديم 04-04-2012, 09:55 AM   #5
عضو مميز


الصورة الرمزية السيد هادي الحمامي
السيد هادي الحمامي غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 89
 تاريخ التسجيل :  May 2011
 أخر زيارة : 12-13-2012 (10:43 PM)
 المشاركات : 127 [ + ]
 التقييم :  10
 الجنس ~
Male
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي



لكم تحياتي ودعائي بالتوفيق والعزّة والشموخ وبيان ما تعرّضت له مسيرة العترة الطاهرة من جحود ونكران ما أمر به الرحمن في كتابه المجيد القرآن وسنة النبي سيد ألأكوان ، ولهذا وجب على كل مؤمن ان يسير ولو باليسير لإضهار كلمة الحق ولو كره المشركون .........................
شكرا جزيلا لمروركم


 
 توقيع : السيد هادي الحمامي



رد مع اقتباس
إضافة رد


ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

كود [IMG]متاحة
كود HTML معطلة




Loading...


Powered by vBulletin™ Version 3.8.7
Copyright © 2024 vBulletin Solutions, Inc. All rights reserved.
Support : Bwabanoor.Com
HêĽм √ 3.1 BY:
! ωαнαм ! © 2010
سعودي كول