وفي رواية أخرى لأمّ هاني جمعت في الذكر بين مخاصمتها إيّاهم في الإرث و مخاصمتها في سهم ذوي القربى كما يأتي:
في فتوح البلدان، و طبقات ابن سعد، و تاريخ الإسلام للذهبي، و شرح النهج و اللفظ للأوّل، عن أمّ هاني قالت: إنّ فاطمة بنت رسول اللّه أتت أبا بكر (رض) فقالت: من يرثك إذا متّ؟
قال: ولدي و أهلي.
قالت: فما بالك ورثت رسول اللّه دوننا!؟
قال: يا بنت رسول اللّه! ما ورثت أباك ذهبا و لا فضّة.
فقالت: سهمنا بخيبر و «صدقتنا» (30) فدك.
ولفظ طبقات ابن سعد: «قال ما ورثت أباك أرضا و لا ذهبا و لا فضّة و لا غلاما و لا مالا».
قالت: فسهم اللّه (31) الذي جعله لنا و صافيتنا بيدك.
قال: يا بنت رسول اللّه سمعت رسول اللّه يقول: «إنّما هي طعمة أطعمني اللّه حياتي فإذا متّ فهي بين المسلمين» (32). و في لفظ ابن أبي الحديد و تاريخ الإسلام للذهبي:
قال: ما فعلت يا بنت رسول اللّه ( صلى الله عليه واله ) .
فقالت: بلى إنّك عمدت إلى فدك و كانت صافية لرسول اللّه ( صلى الله عليه واله ) فأخذتها، و عمدت إلى ما أنزل اللّه من السماء فرفعته عنّا! فقال: يا بنت رسول اللّه! لم أفعل، حدّثني رسول اللّه ( صلى الله عليه واله ) أنّ اللّه تعالى يطعم النبيّ ( صلى الله عليه واله ) الطعمة ما كان حيّا فإذا قبضه إليه رفعت.
فقالت: أنت و رسول اللّه أعلم، ما أنا بسائلتك بعد مجلسي، ثمّ انصرفت.
تقصد من سهم اللّه سهامهم من الخمس، و من الصافية صوافي رسول اللّه، و من قولها «عمدت إلى ما أنزل اللّه من السماء فرفعته عنا» سهم ذوي القربى الّذي نزل في القرآن، و حكم الإرث الذي يعمّ المسلمين كافّة رسول اللّه و من عداه.
وذكرت بعض الروايات أنّ العبّاس اشترك معها في مطالبة إرث الرسول مثل ما رواه ابن سعد في طبقاته، و تابعه المتّقي في كنز العمّال و اللفظ للأوّل قال: جاءت فاطمة إلى أبي بكر تطلب ميراثها، و جاء العبّاس بن عبد المطّلب يطلب ميراثه، و جاء معه علي فقال أبو بكر: قال رسول اللّه: «لا نورث ما تركناه صدقة» و ما كان النبيّ يعول فعلي. فقال عليّ: «و ورث سليمان داود» و قال «يرثني و يرث من آل يعقوب».
قال أبو بكر: هو هكذا و أنت و اللّه تعلم مثل ما أعلم.
فقال علي: هذا كتاب اللّه ينطق! فسكتوا و انصرفوا .
نرى في هذه الرواية و هما من الرواة و أن العباس لم يأت مع علي ليطلبا إرثا، و إنّما جاءا ليعينا فاطمة. و لعلّ العباس طالب بسهمه من الخمس، فالتبس الأمر على الرواة، و ذكروا أنّه جاء يطلب الميراث.
لمّا أدلت فاطمة بكلّ ما لديها من دليل و شهود و أبى أبو بكر أن يقبل منها و يعطيها شيئا من تركة الرسول و منحته، رأت أن تبسط الخصومة على ملاء من المسلمين، و تستنصر أصحاب أبيها، فذهبت إلى مسجده كما رواه المحدّثون و المؤرخون.
في سقيفة أبي بكر الجوهري برواية ابن أبي الحديد و بلاغات النساء لأحمد بن أبي طاهر البغدادي و اللفظ للأوّل: لمّا بلغ فاطمة إجماع أبي بكر على منعها فدك، لاثت خمارها على رأسها، و اشتملت جلبابها، و أقبلت في لمّة من حفدتها و نساء قومها تطأ ذيولها، ما تخرم مشيتها مشية رسول اللّه ( صلى الله عليه واله ) حتّى دخلت على أبي بكر و هو في حشد من المهاجرين و الأنصار و غيرهم، فنيطت دونها ملاءة ثمّ أنّت أنّة أجهش لها القوم بالبكاء و ارتجّ المجلس، ثمّ أمهلت هنيئة حتّى إذا سكن نشيج القوم و هدأت فورتهم، افتتحت كلامها بالحمد للّه عزّ و جلّ و الثناء عليه، و الصلاة على رسول اللّه، ثمّ قالت:
أنا فاطمة ابنة محمّد، أقول عودا على بدء، لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتّم حريص عليكم بالمؤمنين رؤف رحيم، فإن تعزوه تجدوه أبي دون آبائكم و أخا ابن عمّي دون رجالكم، ثم استرسلت في خطبتها إلى قولها:
ثمّ أنتم الآن، تزعمون أن لا إرث لنا {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50] ، يا ابن أبي قحافة! أ ترث أباك و لا أرث أبي لقد جئت شيئا فريّا فدونكها مخطومة مرحولة تلقاك يوم حشرك فنعم الحكم اللّه و الزعيم محمّد ( صلى الله عليه واله ) و الموعد القيامة وعند الساعة يخسر المبطلون. ثمّ انكفأت إلى قبر أبيها (عليها السلام) تقول: قد كان بعدك أنباء وهنبثة ... الأبيات (33) قال: و لم ير الناس أكثر باك و لا باكية منهم يومئذ، ثم عدلت إلى مسجد الأنصار، فقالت: يا معشر البقيّة و أعضاد الملّة و حضنة الإسلام! ما هذه الفترة عن نصرتي، والونية عن معونتي، و الغمزة في حقّي، والسنة عن ظلامتي؟! أ ما كان رسول اللّه ( صلى الله عليه واله ) يقول: «المرء يحفظ في ولده»؟ سرعان ما أحدثتم و عجلان ما أتيتم، أ لأن مات رسول اللّه ( صلى الله عليه واله ) أمتم دينه!؟ ها، إنّ موته لعمري خطب جليل، استوسع وهنه، و استبهم فتقه، و فقد راتقه، و اظلمت الأرض له، و خشعت الجبال، و أكدت الآمال، اضيع بعده الحريم، و هتكت الحرمة، و ازيلت المصونة، و تلك نازلة أعلن بها كتاب اللّه قبل موته، و أنبأكم بها قبل وفاته، فقال: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 144] .
إيها بني قيلة اهتضم تراث أبي و أنتم بمرأى و مسمع تبلغكم الدعوة، و يشملكم الصوت، و فيكم العدّة و العدد، و لكم الدار و الجنن، و أنتم نخبة اللّه الّتي انتخب، و خيرته الّتي اختار. باديتم العرب، و بادهتم الأمور، و كافحتم البهم، حتّى دارت بكم رحي الإسلام، و درّ حلبه و خبت نيران الحرب، و سكنت فورة الشرك، و هدأت دعوة الهرج و استوثق نظام الدين، أ فتأخرتم بعد الإقدام؟! و نكصتم بعد الشدّة، و جبنتم بعد الشجاعة عن قوم نكصوا أيمانهم من بعد عهدهم و طعنوا في دينكم «فقالوا أئمّة الكفر إنّهم لا أيمان لهم لعلّهم ينتهون».
ألا و قد أرى أن قد أخلدتم إلى الخفض، و ركنتم إلى الدعة، فجحدتم الّذي وعيتم ودسعتم الّذي سوغتم، و إن تكفروا أنتم و من في الأرض جميعا فإنّ اللّه لغنيّ حميد.
ألا و قد قلت لكم ما قلت على معرفة منّي بالخذلة الّتي خامرتكم، و خور القناة و ضعف اليقين، فدونكموها فاحتووها مدبرة الظهر، ناقبة الخفّ، باقية العار، موسومة الشعار موصولة بنار اللّه الموقدة الّتي تطلع على الأفئدة، فبعين اللّه ما تعملون، و سيعلم الّذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون.
قال: و حدّثني محمّد بن زكريا، قال: حدثنا محمّد بن الضحاك، قال: حدثنا هشام بن محمّد، عن عوانة بن الحكم، قال لمّا كلّمت فاطمة (عليها السلام) أبا بكر بما كلمته به، حمد اللّه أبو بكر و أثنى عليه و صلّى على رسول ثمّ قال: يا خيرة النساء و ابنة خير الآباء، و اللّه ما عدوت رأي رسول اللّه ( صلى الله عليه واله ) ، و ما عملت إلّا بامره، و إنّ الرائد لا يكذب أهله، و قد قلت فأبلغت و أغلظت فأهجرت فغفر اللّه لنا و لك، أما بعد فقد دفعت آلة رسول اللّه و دابّته و حذاءه إلى علي (عليه السلام)، و أمّا ما سوى ذلك فإنّي سمعت رسول اللّه ( صلى الله عليه واله ) يقول: «إنا معشر الأنبياء لا نورث ذهبا و لا فضة و لا أرضا ولا عقارا و لا دارا، و لكنا نورث الإيمان و الحكمة و العلم و السنّة» فقد عملت بما أمرني و نصحت له، و ما توفيقي إلّا باللّه عليه توكلت و إليه أنيب.
وفي رواية بلاغات النساء: ثمّ قالت: أيّها الناس! أنا فاطمة و أبي محمّد ( صلى الله عليه واله ) أقولها عودا على بدأ لقد جاءكم رسول من أنفسكم ... ثمّ ساق الكلام على مثل ما أوردناه إلى قوله:
ثمّ قالت أ فعلى عمد تركتم كتاب اللّه و نبذتموه وراء ظهوركم إذ يقول اللّه تبارك و تعالى: وَ وَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ، و قال اللّه عزّ وجلّ في ما قصّ من خبر يحيى ابن زكريّا: ربّ {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} [مريم: 5، 6] ، وقال عزّ ذكره: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأنفال: 75] ، و قال: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11] ، وقال: {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 180] ، وزعمتم أن لا حقّ و لا إرث لي من أبي و لا رحم بيننا أ فخصّكم اللّه بآية أخرج نبيّه ( صلى الله عليه واله ) منها أم تقولون: أهل ملّتين لا يتوارثون. أو لست أنا و أبي من أهل ملّة واحدة لعلّكم أعلم بخصوص القرآن و عمومه من النبيّ ( صلى الله عليه واله ) {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ... } [المائدة: 50] (34).
قال ابن أبي الحديد: و حديث فدك و حضور فاطمة عند أبي بكر كان بعد عشرة أيّام من وفاة رسول اللّه ( صلى الله عليه واله) ، و الصحيح أنه لم ينطق أحد بعد ذلك من النّاس من ذكر أو أنثى بعد عود فاطمة (عليها السلام) من ذلك المجلس بكلمة واحدة في الميراث (35).